تحقيقاتصحيفة البعث

الهروب من البيت والمدرسة ظاهرة متزايدة في البيئات الاجتماعية المضطربة والحلول المستخدمة “تزيد الطين بلة”

 

تعاني الكثير من الأسر من حالات تسرب أطفالها من المدرسة، وقد يصل الأمر للهروب من المنزل، والبقاء في الشارع لساعات عديدة، وتكمن هذه المشكلة في عدم قدرة الأهل على إيجاد الحلول المناسبة لردع أبنائهم عن هذا التصرف، وقد يلجأ بعض الآباء لاستخدام طرق مختلفة غير مجدية كقفل الأبواب والنوافذ، وتكثيف المراقبة عند خروجهم، وأثناء عودتهم من المدارس لعل ذلك يساهم في ضبط الأبناء، ولكن يجب ألا ننسى أنهم أكثر ذكاء مما نتوقع، فبعض الأولاد يبدؤون عملية التسرب منذ الصباح الباكر بالتجوال في الشوارع، أو المطاعم، أو “المقاهي”، أو أي مكان آخر اعتادوا ارتياده، والعودة إلى البيت في وقت متأخر، والبعض الآخر يحاول الهرب بين فترات متقطعة، واستغلال انشغال الأهل، ويتلقى الآباء هذا الموقف بردة فعل قاسية وغير واعية، ويقدمون على استخدام أساليب عقاب صارمة “تزيد الطين بلة”، وتترك أثراً سلبياً في نفوس أبنائهم، بل تدفعهم إلى ردود أفعال أكثر خطورة لا يمكن السيطرة عليها في مراحل متقدمة.

المغامرة والاكتشاف
البحث عن الحلول يقتضي التركيز على العوامل التي تؤدي إلى هروب الطفل وتسربه، وبحسب الباحثة الاجتماعية ربا الأشقر، ترتبط مسألة تسرب الأبناء بعدة عوامل، منها ذاتية، أي ترتبط بشخصية الطفل، حيث يجد هؤلاء الأطفال ما يستثيرهم في الهروب، وهو حب المغامرة، والإقدام، واكتشاف المجهول، ورؤية عوالم جديدة بعيداً عن تلك الحدود التي رسمت لهم، والتعامل مع الوجوه والشخصيات الجديدة، واكتسابهم الخبرات المثيرة، وهم لا يهتمون بأبعاد الزمن، ولا بقيود الأماكن، أو اتساع المسافات، لأن نشوة المغامرة تغمر كيانهم ، وفي حالة أخرى قد يكون الطفل مصاباً بعاهة أو إصابة تجعله موضع سخرية فيلجأ للهرب، ويمكن أن يكون الطفل سليماً من الناحية الجسدية، ولكن من الناحية العقلية ليس بمستوى زملائه بالتفكير فيلجأ للهرب والتسرب، وتضيف الأشقر: هناك عوامل نفسية تتعلق بالتسرب، فمعظم العيادات المختصة بالتحليل النفسي لهذه الحالة تؤكد أن بعض الأطفال كانوا يهربون من الطرقات الضيقة المزدحمة التي يعيشون فيها، أو من المعاملة الفاترة القاسية التي يتلقونها داخل نطاق الأسرة، ما يعني أن الهرب هو الرغبة في تحقيق إشباعات أكثر إلحاحاً تتمثّل في الإشباعات النفسية والوجدانية، فانعدام الشعور بالأمن والاطمئنان، وافتقادهم إلى الحب والمودة وتحقيق الذات، من الأمور التي تجعل الأطفال بائسين وحزانى، ويشعرون بالخشية والخوف على حياتهم النفسية والوجدانية عمن يعوضهم ذلك في بيئات أخرى، ومع أشخاص مختلفين، ولابد من التأكيد أن القسوة والتربية الصارمة والتنشئة المتشددة تؤثر تأثيراً سيئاً، وتؤدي إلى خلق ضمير غير سوي، وتجعل الطفل يقف من المجتمع موقفاً عدائياً، بالإضافة إلى أنها تميت في نفسه الثقة، وتجعله يتحاشى الدفاع عن نفسه، وفي الوقت نفسه يكون التراخي في معاملة الأطفال ليس أقل ضرراً على الصحة النفسية من القسوة، حيث يخلق عنده الاضطراب والقلق، ويلجأ للهرب.
فرص مشروعة
طبيعة الحياة الأسرية، ونمط معيشتها يلعبان دوراً هاماً في حالات التسرب والهرب، فمن دواعي تفكك الروابط الأسرية، ومشاجرات الوالدين، سوء الحالة الاقتصادية، أو عجز أحد الوالدين أو كليهما عن تربية أبنائهم، ما يجعل جو المنزل ثقيلاً لا يطاق، ويسبب هروب الطفل، وأحياناً الهروب من العقاب، وهنا يرى الباحث النفسي أحمد عوالمة أن الطفل يتعلق بالصحبة السيئة التي تغريه بوسائل مختلفة كالذهاب إلى السينما، أو التنزه في الحدائق، أو المشي في الطرقات، ما يسبب إدمان الطفل على الهرب، ويزيد الأمر سوءاً عدم وجود قدر كاف من الرقابة والضبط من جانب الوالدين، وعدم إتاحتهما الفرص الملائمة المشروعة لأبنائهما للاستمتاع بمثل هذا النوع من الأنشطة في الأوقات المناسبة، لذلك يتعين على الأهل إدراك أن الأطفال في العادة يتكيفون بسرعة فائقة مع معايير الأسرة، وأحياناً يشذ بعض الأطفال عن هذا الوضع، فالطفل يبدي من الأفكار والاهتمامات والميول ما يختلف بشكل واضح عن تلك التي تسود في بيئة المنزل.

المناهج المرنة
إن من أهم العوامل التي كانت تؤدي بالأطفال للهرب فقدانهم لما يشبع رغباتهم وميولهم في بيئاتهم الدراسية، ويترتب عن عدم توافر الأنشطة الاجتماعية والرياضية بالمدرسة أن يذهب الطفل إلى المدرسة ليتلقى من معلميه المعلومات، وهذا ما يجعل المدرسة تفقد عاملاً مهماً في بناء التلميذ يتفاعل معه وينتمي له، ومثل هذا الجو يقتل الحياة الاجتماعية، لذلك نرى بعض التلاميذ يفصحون عما عندهم من نشاط دفين بطرق غير موجهة كالتدخين، أو التخريب، أو تكوين عصابات صغيرة، إلى غير ذلك، ويضيف عوالمة: الاضطرابات السلوكية المختلفة، منها الهرب، يمكن ضبطها من خلال المنهج الدراسي المرن والمتوازن الذي يدفع الطفل إلى التعلّم والتعليم بآثاره الإيجابية، وتذوق المادة الدراسية عن طريق التكشف، حيث تم إثبات أن حالات التأخر في التحصيل الدراسي كثيراً ما يصحبها فشل وشقاء وعزوف عن المعرفة إلى الهرب من الواجبات المدرسية التي أصبحت عبئاً ثقيلاً على الأطفال، لأن المدارس لا تقوم بعملها الأساسي، وإنما تعتمد على المنزل في أداء الواجبات، ويتابع عوالمة: إن بعض العوامل البيئية هي إدراك الأطفال لأهمية تكيفهم مع ظروف البيئة، وما لهذا التكيف من أثر بالغ على شخصياتهم المتنامية، كالتقبّل التام لمتطلبات بيئتهم، ويؤدي التقبّل الكامل للمعايير الاجتماعية إلى أن تصبح جزءاً من تكوينهم النفسي، وبالتالي جزءاً متكاملاً من نمو سلوكهم، في حين أن التردد في تقبّل متطلبات البيئة يؤدي للتردد في تقبّل معايير السلوك السائدة بين الجماعات التي ينتمون إليها خارج المدرسة، ولكن يشعرون بالرغبة بالمشاركة، وتقبّل الجماعة، أو نبذ الأطفال، وما تعرضه البيئة عليهم من متطلبات، وهذا يحصل في البيئات التي يحرص فيها الآباء على عدم إشراك أبنائهم في أي نوع من النشاطات، وهذه البيئة تتميز بالقلق وعدم الاستقرار، ما يعني عدم قدرة الأطفال على التكيف مع مقتضيات المواقف التي يواجهونها.

مراعاة المسببات
في الحديث عن الحلول يجب التوجه للطفل الذي يعي الحدود التي لا ينبغي أن يتخطاها في لعبه أو لهوه، وأن تكون هناك أسباب منطقية تدعو لالتزامه، وأن نهيىء له كل الأسباب لاستبقائه في هذه الحدود حتى يبلغ السن التي يستطيع فيها إدراك الضرر من الهروب، وينصح عوالمة بابتعاد الآباء والمربون عن استخدام وسائل العقاب البدنية الشديدة المؤلمة، أو الوسائل الشفوية من تشهير، وتوبيخ، واستهزاء بشخص الطفل، أو السخرية من تصرفاته، فإذا كان لدى الطفل استعداد للهرب يجب أن نهيىء له في المنزل ما يجذبه ويشده، واصطحاب الأطفال إلى المسارح والملاعب والمكتبات حتى “يرشدوا خطاهم” في حبهم للمغامرة والإقدام، واكتساب المزيد من الخبرات، كما يجب على الآباء أن يبحثوا عن الأسباب التي تؤدي إلى هروب الطفل وتسربه، وعلى الأهل مراعاة المسببات لهروب الأطفال كإرهاقهم بالواجبات المنزلية، وتكليفهم بأعباء فوق طاقتهم وإمكانياتهم، أو الإحساس بالفشل في متابعة المناهج الدراسية، ومدى انصراف الآباء عن متابعة أبنائهم، ونقص رقابتهم، ومدى النقص في طموحهم نحو الاستمرار في التعليم، ومدى تراخي الإدارة المدرسية، وعدم متابعتها لحالات الغياب الفردية، وعدم وجود نشاط مدرسي متنوع ومثير يهيىء للأطفال النمو الاجتماعي، وتكوين علاقات سوية خارج دائرة الأسرة.

ميادة حسن