ثقافةصحيفة البعث

الأديب الفاشل والسياسي المحنّك

“الديمقراطية هي أفضل صيغة للحكم السيئ” عبارة قالها أحد ثعالب السياسة العالميّة ومهندسيها في القرن العشرين، رئيس وزراء بريطانيا في الحرب العالميّة الثانية “ونستون تشرشل” الذي ألّف رواية وحيدة بعنوان “سافرولا” أجمع الكتّاب حينها على دونيّة مستواها الفنّي، فتوجّه حزيناً نحو الرسم واستثمار مواهبه في “الرّيبورتاج الحربي” ثمّ نحو السياسة التي أبدع فيها ليصبح رمزاً من رموزها الكبار.

ما قاله السّياسي المحنّك، غدا أدبيّة مألوفة من أدبيّات الأنظمة الشّموليّة التي استخدمتها لتكريس حكمها الفردي، رافعةً شعار الأكثريّة كما تزعم. ولعلّها تتقاطع من حيث التّطبيق مع المأثور العربي القائل: “جِيء بالكاذب ليحلف على الكتاب المقدّس، فقال إجانا الفرج!”، حيث وجدتْ الأنظمة السياسيّة الحديثة فيها ضالّتها وهويّتها وسلاحها الفعّال ضدّ المعارضات المناوئة لها، فأجادت استثمارها بمهارةٍ في لعبة الاستئثار بالحكم، مستفيدة من البريق المعنوي لكلمة “الديمقراطية” التي تعني على المستوى الشّكلي، حكم الأكثريّة، لكن ما إن أحكمتْ قبضتها على كلّ شيء، حتى أخذتْ بترتّيب أمورها كأقليّة لها مصالحها الخاصّة المتقاطعة مع مصالح رموز مافيويّة، تقف في الظلّ متحيّنة الفرصة للانقضاض على كلّ منجز إيجابي لصالح الأكثريّة، ليتمّ بعدها اقتسام الكعكة وتفريغ البرامج التنمويّة الحقيقيّة من محتواها الأصلي.

هذا ما يحدث إذن، يتسلّق هؤلاء شعارات معيّنة، ويركبون موجة الغضب الجماهيري وانتفاضات الجياع، وكلّ ما يخدم انتهازيتهم للوصول إلى الحكم وتثبيت مواقعهم وحسب. هذا ما فعلته أحزاب سياسية كثيرة على مستوى العالم ومنها أحزاب عربيّة عريقة، ادّعتْ الاستقلاليّة، بينما هي مازالتْ تدور في فلك المستعمر. وقد نجحتْ حقيقة بتفريغ هذه الشّعارات “الحريّة، الديمقراطية، الاشتراكيّة، الوحدة، حقوق الإنسان” من مضمونها الأصيل، وحوّلتها إلى مجرّد يافطات تُرفَع  وتُستثمر وقت الضّرورة. لكن، دون أن يكون لها أيّ صدى تنفيذيّ على أرض الواقع. وإن وُجِدَ مثل هذا الصّدى فسيكون على شكل تطبيل وتزميرٍ وتمجيد للرموز الفرديّة المتماهية بحب الوطن كما تدّعي، لتظلّ نسبة الانتخاب الدّائمة والمألوفة تفوقُ التسع وتسعين بالمائة من حجم كتلة الجماهير الغفورة. وبالتالي يجب على الجميع المرور من تحت قوس هذه الأقليّة، والحجّ إلى كعبتها، ليتباركوا بقدسيّتها الموهومة. هكذا رعتْ فاشيّة “فرانكو، وموسوليني” ونازيّة “هتلر” الشّعارات والنعّرات العرقيّة والعنصريّة البرّاقة، لتصل إلى السلطة بعد الحرب العالميّة الثانية، وتركتْ للجماهير الغاضبة حريّة شكليّة، تعبّر من خلالها عن نفسها، كحالة صراخيّة غرائزيّة، بعيداً عن المطالب والحقوق المشروعة الأصليّة، المتمثّلة بتغيير علاقات الملكيّة من أساسها، وتطبيق مبادئ العدالة الاجتماعيّة وتكافؤ الفرص للجميع، بينما تكمنُ مصلحة هذه الأنظمة بالمحافظة على هذه العلاقات كما هي دون تغيير، عبر تجديد الأقنعة وتجميل الشعارات السياسية، وتحفيز الغرائز الأنانيّة والقبلية والعصبية والقومية الضّيّقة الكفيلة بحرف الأهداف نحو مسارات أخرى، لتغدو بأفضل حالاتها شعارات جوفاء لا تغني عن جوع. وهذا ما يذكّرنا بشعاراتٍ عربيّة رُفعتْ منذ الاستقلال، ولم نرَ لها تطبيقاً على أرض الواقع حتى الآن، مهما تغنّتْ بها حناجر الشعراء، فحين كانت تضيق هوامش حركة الأنظمة المحاصرة بمطالب الجماهير، تجد وصفةً جاهزة لها، وهي اصطناع عدو خارجيّ، يُحيك المؤامرات والدّسائس للإيقاع بأوطانها، وهنا يتحتّم على الأكثريّة الواقعيّة بالضّرورة ،أن تشدّ الأحزمة، وتتقشّف، تمهيداً لانخراط طويلٍ في حرب لا نهاية لها، ليبقى كلّ شيء على حاله المتوارث، ولتبدأ حملة أدبيّة منظّمة لتجميل وجه الحرب القبيح، وزخرفة مزايا خوضها للدفاع عن الكرامة والحقوق المهدورة. هكذا كان وما يزال يُجمّلُ الحدث من خلال السياسة. مع أنّ الأنظمة الفاشيّة لم تكن بالأساس محتاجةً إلى حجج لافتعال الحروب، وهذا ما عرفناه عن الحربين العالميتين الأولى والثانية، وما عكسه بحِرَفيّةٍ وجماليّة بيان سلاح البحريّة في حرب المستعمرات الإثيوبيّة الذي نمّقَ وجهَ الحرب القذرة آنذاك، وقد أشار إلى ذلك المفكّر الإشكالي الألماني “والتر بنيامين” بإحدى مقالاته. ذاك المفكّر الذي هُدّد أثناء محاولته قطع الحدود الإسبانيّة إلى فرنسا، بتسليمه إلى مخابرات “هتلر” فتجرّع السمّ وانتحر. يقول البيان: (منذ سبع وعشرين سنة ونحن نربأ بأنفسنا عن أن يُشار إلى الحرب من قبلنا على أنّها ضدّ الجمال، وبناء عليه نؤكّد ما يلي: الحربُ جميلة لأنّها  بفضل الكمّامات الواقية ومكبّرات الصوت الباعثة للرّعب وقاذفات اللّهب والمدرّعات، تثبت سيطرة الإنسان على الماكينة الذّليلة.. الحرب جميلة لأنّها تتطلّع إلى تعدين مرتقب للجسد البشري.. الحرب جميلة لأنّها تحيط المرج النّضير بنبتات سحلبيّة شائكة.. الحرب جميلة لأنها توحّد بين نار البندقيّة ونيران المدافع وتوقُّف أصواتها، وبين رائحة العطور ورائحة الجثث، وتجمعها في سيمفونيّة واحدة.. الحرب جميلة لأنهّا تخلق فنّاً معماريّاً جديداً، مثل الفنّ المعماري للدبابات، والأسراب الهندسيّة للطائرات، والأشكال اللولبيّة الدّخانية المنبعثة من قرى محترقة، وأشياء أخرى كثيرة. فيا شعراء وفنّاني المستقبل تذكروا هذه الأمور الجوهريّة لجماليّة الحرب، وذلك حتى تصبح دائرتنا مضاءة بشعر جديد وفن نحت جديد، مضاءة من تلك الأشياء) ولعلّ ما أحدثته الإمبرياليّة الأمريكيّة، وما زالتْ تحدثه في منطقتنا من دمار وتخريب، وكوارث جمّة على كلّ الأصعدة، وما فعلته وتفعله من تجميل لوجه القوى الظلاميّة ودعمٍ للأنظمة الاستبداديّة، وإشاعتها المزيّفة بأنّها جاءتْ لتشيد دعائم الديمقراطية عندنا، هو خير مثال على تجديد الفاشيّة لأقنعتها عبر الزمن.

أوس أحمد أسعد