دراساتصحيفة البعث

قراءة في كتاب: “حرب واشنطن الطويلة على سورية”

أمجد حامد السعود

يمثّل كتاب “حرب واشنطن الطويلة على سورية” الصادر عن دار نشر (Bakara Books) والمترجم بفصوله التسعة عن الهيئة العامة السورية للكتاب توضيحاً لكيفية تعاطي السياسة الأمريكية مع الحرب الإرهابية على سورية خلال الفترة الزمنية ما بين (2011- 2016م). ومن خلال القراءة والتحليل للكتاب يمكن تجسيده بالدراسة التحليلية الآتية.
المؤلف: ستيفن غاونز.
المترجم: أ. د. غياث عبد الوهاب بركات– بروفيسور وأكاديمي في جامعة دمشق– له العديد من المؤلفات العلمية والأكاديمية- شغل العديد من المناصب السياسية من أبرزها وزير التعليم العالي (2006– 2011م).

عرين العروبة:
يتناول الكتاب في فصله الأول عرضاً تاريخياً لترسخ أيديولوجيا القومية العربية في سورية والوطن العربي من خلال القيم والعقيدة البعثية التي اتخذت من شعارها عنواناً لآلية تعاطيها مع القضايا السياسية الداخلية والخارجية، والمتجسّدة في الوحدة– الحرية– الاشتراكية كثالوث سياسي اجتماعي اقتصادي، يتمثّل في الإيمان بأن العرب أمة واحدة لابدّ لها أن تسعى إلى التوحد لمواجهة الإمبريالية والمطامع الاستعمارية ورفض الاحتلال والاستعمار للأراضي العربية وحتى العالمية، ودعم حركات التحرّر والمقاومة الوطنية في الوطن العربي والعالم، فضلاً عن الاشتراكية التي آمن الحزب بأنها إدارة الاقتصاد من قبل الدولة بكافة القطاعات لمصلحة الشعب السوري، وتجسيد المقدّرات والثروات والموارد الطبيعية الوطنية في كافة القطاعات لمصلحة الشعب السوري، وفي ذلك خروج عن النهج الاقتصادي الأمريكي الذي يرى بأن كل اقتصادات العالم لا بد أن تكون قائمة على حماية المصالح الأمريكية وتسعى إلى تطوير ونمو الاقتصاد الأمريكي، على اعتبار أنه الاقتصاد المتحكّم والمسيطر على الاقتصاد العالمي خصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.
ويشير الكاتب إلى أن الدستور السوري لعام (1973م) قد عكس هذا الثالوث في مبادئه وركز على البعد القومي لسورية، وبذلك حدّد ثلاث قوى تشكل عائقاً أمام تحقيق أهداف البعث وهي الإمبريالية– الهيمنة الاقتصادية الأمريكية– والصهيونية.
إن خروج سورية عن دائرة الاقتصاد الأمريكي باقتصاد وطني قائم على فكرة القطاع العام شكّل نوعاً من التحدي للهيمنة الأمريكية على معظم الأنساق الاقتصادية في العالم.
واجهت الولايات المتحدة الأمريكية في سورية قيادة سياسية تحمل أيديولوجيا عروبية قومية علمانية وتشكل تهديداً كبيراً لمصالحها، بما تمتلكه الأمة العربية من مقوّمات بشرية واقتصادية وموارد وثروات من الممكن أن تجعل منها قوة عالمية في حال تحقيق الوحدة العربية، وهي أحد أركان حزب البعث العربي الاشتراكي.
وبالتالي فإن أيديولوجيا القيادة السياسية في سورية والتي تقوم على النهج القومي العروبي العلماني بدأت تجسّد حالة واقعية قومية على مستوى بعض الأنظمة وشعوب الوطن العربي.
من المؤكد بأن الاحتلال الأمريكي للعراق لم يكن فقط للسيطرة على موارد النفط، بل كان مقدّمة لضرب أيديولوجيا القومية العربية المتمثلة بقطبي حزب البعث العربي الاشتراكي الأقوى سورية والعراق، وكان من الضروري إيجاد نوع من الاضطراب على مستوى القيادة السورية، كما هي الحال في القيادة العراقية لضرب نقطة الارتكاز في دائرة القومية العربية.

استمرار النهج القومي العروبي ومحاولة الأمريكان تغيير “النظام”:
بعد استلام السيد الرئيس بشار الأسد للرئاسة في الجمهورية العربية السورية حاولت بعض القوى الغربية استمالته بغية وضع سورية تحت جناح الاقتصاد الأمريكي المفتوح وإبعادها عن نهج العروبة، بتقديم بعض الإغراءات المالية والسياسية، إلا أنهم اصطدموا برجل قومي علماني يؤمن بالاشتراكية والاقتصاد الموجّه نحو خدمة مصالح الشعب السوري ويجسّد امتداداً لنهج القائد المؤسّس حافظ الأسد، ولذلك كان لابد للقيادة السياسية في سورية أن تواجه تلك القوة الاقتصادية الأمريكية المفتوحة الساعية لتغيير هذا النوع من “الأنظمة السياسية” لما يجسّده من عقبة كبيرة نحو تحقيق مصالحها.
كما كان لابدّ له من أن يواجه قوة ثانية تمقت طبيعة ومبادئ القيادة السياسية القومية العلمانية، وهي التيارات الإسلاموية العدو الأول لمبادئ الماركسية والقومية والعلمانية، والتي بدأت بمحاربة القيادة السياسية في سورية بدعم من الغرب منذ بداية السبعينات، وذلك بأسلوب العصابات المسلحة المدعومة من القوة الأولى بناءً على تلاقي المصالح والأهداف.
وبعد الغزو الأمريكي للعراق عام (2003م) كانت عين الغدر الأمريكية تستعد للانقضاض على سورية، لكن الضريبة الكبيرة التي دفعتها الولايات المتحدة الأمريكية على مستوى الأموال والعتاد والعديد، وذلك بفضل دعم سورية وحلفائها لقوى المقاومة العراقية، جعلها تحسب ألف حساب لتدخل عسكري آخر في سورية، وكان من الضروري أن ينفذ وكلاؤها في المنطقة تلك المهمّة وتحطيم صخرة العروبة العتيدة التي تقف في وجه الامبريالية العالمية لسنوات طويلة.
وكانت القوى الإسلاموية الأصولية المتطرفة خير وكيل للأصيل في تنفيذ هذه المهمة، وبدأت إدارة بوش الابن تقوم بإجراءات اقتصادية انتقامية من القيادة السورية، سواء قانون محاسبة سورية أو تجميد أرصدة بعض الأسماء السورية في البنوك الأمريكية والعالمية بحجة دعمها لحزب الله وقوى المقاومة الفلسطينية.
يشير الكاتب إلى أن الإدارة الأمريكية بدأت بتمويل قوى المعارضة الإسلاموية السورية منذ العام (2005م) هادفةً إلى التحضير لقلب “نظام الحكم” في سورية، وهذا يوضح بشكل صريح النوايا الأمريكية الدنيئة حيال سورية، وبأن مسألة الحريات التي تتشدق بها إبان اندلاع الأزمة السورية إنما هي تغطية للهدف الأساسي وهو إنهاء الأيديولوجيا القومية العروبية، وذلك بالأسلوب المعتاد لرعاة البقر في إشغال القيادات المناوئة لها بالفتن الداخلية وإبعادها عن إفشال المخططات الإمبريالية الصهيونية على المستوى الدولي.

حمّى 2011م
يتناول الفصل الثالث من الكتاب الكيفية التي تعاطت معها الإدارة الأمريكية للرئيس أوباما مع الأحداث في سورية، مستغلةً ما تمرّ به المنطقة برّمتها من غليان في الشارع، وكان تعاطيها مع ما يُسمّى “الربيع العربي” يتمثّل بسياسات قديمة حديثة وفقاً لنماذج مستنسخة من السابق، من خلال تمويل ودعم التيارات الإسلاموية الأصولية، كما فعلت بالضبط في أثناء أحداث “الإخوان المسلمين” في الثمانينيات في سورية، إنما بدائرة أوسع من التآمر والوحشية، سواء على مستوى التسليح والتحريض الإعلامي أو استغلال الانتشار الأوسع لشبكات التواصل الاجتماعي في المنطقة العربية، ومحاولة خلق نوع من الشيطنة الافتراضية لطبيعة الحياة في سورية، لذلك كانت تتتالى التصريحات من المسؤولين الأمريكيين وأتباعهم بمطالبة القيادة السورية التخلي عن الحكم وترك البلاد رهينة للفوضى وللمتطرفين المتشددين، لأنها تعلم يقيناً بأن عامل الزمن -بعد الانتصارات التي حققتها القيادة السورية على المستوى السياسي في المنطقة– ليس في مصلحة أهدافها وغاياتها التي طالما حلمت بتحقيقها في سورية، وبدأت تظهر ملامح هذا العبث الدموي من قبل الأمريكيين وأتباعهم على المستوى العالمي من خلال إطلاق سراح السجناء لديهم المحكومين بتهم الإرهاب، وزجّهم في الصراع السوري مع العصابات الإرهابية المسلحة، لتظهر مطامع العبثية السياسية الأمريكية الغربية ورغبتهم بزرع كيان إرهابي إسلاموي متطرف على اختلاف فصائله وتسمياتها المختلفة في سورية.
استطاعت القيادة السياسية بدعم حلفائها الصمود في وجه هذه الشيطنة الافتراضية ولم تتزعزع شعبية الرئيس الأسد. وبات الرأي العام الأوروبي والأمريكي والعالمي على يقين من وجود خطر مما يحدث في سورية من تمرد مسلح مصبوغ بسواد الإرهاب الإسلاموي المتطرف، وبدأت حينها الحكومة الأمريكية تراوغ سياسياً بإلباس الموالين لها من تلك العصابات الإرهابية الإسلاموية المسلحة ثوب الاعتدال السياسي.
إذن واجهت القيادة السورية البعثية العلمانية خلال مسيرتها إلى الآن ثلاث قوى مناوئة لأهدافها في ظلّ قيمها البعثية الثلاث الوحدة– الحرية– الاشتراكية. فقد عارض الإسلام السياسي علمانيتها، وعارض الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأمريكية قوميتها العربية، وعارض سوق المال الأمريكي اشتراكيتها العربية.

خرافة المتمردين المعتدلين:
بعد أن كشفت أبرز الصحف العالمية عن التوجّه الإسلاموي الإرهابي المتطرف في سورية لإقامة دولة إسلامية معادية للحكومة السورية الشرعية العلمانية، أصبحت الولايات المتحدة في حالة من المراوغة السياسية حتى تشرّع دعمها للإرهاب في سورية، فخرجت بمصطلح المعارضين المعتدلين، ويظهر ذلك جليّاً في سيطرة الإخوان المسلمين على مفاصل “المعارضة السياسية في الخارج” وخصوصاً ما يُسمّى “المجلس الوطني السوري الانتقالي” والذي أعدّته الولايات المتحدة الأمريكية وأتباعها كذراع سياسي لها مدعوم عسكرياً من الذراع المتطرف وما يُسمّى “الجيش الحرّ”.
وهذا ما أكدته صحيفة (wall street journal) بأن توجيه ضربات عسكرية لدولة “داعش” في سورية يساعد الحكومة السورية عسكرياً، ولهذا تجنّبت الحكومة الأمريكية ضرب مواقع “الدولة الإسلامية” في المناطق التي هي خارج سيطرة الحكومة السورية، وبالتالي فإن الطلعات الجوية لقوى التحالف الأمريكي كانت محدودة إلى حدّ كبير وغير ذات قيمة.
وفي محاضرة لـ(جو بايدن) في جامعة هارفارد عام 2014م قال للطلاب: “إن السعوديين والإماراتيين والقطريين.. إلخ مصمّمون على إسقاط حكومة الرئيس بشار الأسد، وبالتالي على خوض حرب بالوكالة بين “السنة والشيعة” ولذلك فقد أغدقوا لذلك مئات الملايين من الدولارات وعشرات آلاف الأطنان من الأسلحة…”.
كما أشار (إيوين ماكساكيل) من صحيفة (الغارديان) إلى أن تعريف “المعتدل” يفترض أن يكون مرتبطاً بالمنهج والأيديولوجيا، ولاحظ بأن المجموعات التي تصفها أمريكا وتركيا والغرب بـ”المعتدلة” تشابه القاعدة بأيديولوجيتها.
كما اعترفت وزارة الدفاع البريطانية بأن المجموعات المسلحة الموصوفة بالمعتدلة يمكنها ارتكاب أعمال غير مستساغة مع مجموعات تعتبر متطرفة.
وفي عام (2013م) أطلقت المخابرات الأمريكية المركزية برنامجاً سرّياً لتدريب المقاتلين بالتعاون مع المخابرات البريطانية والفرنسية والأردنية بميزانية تُقدّر بمليار دولار، وبتمويل كامل من السعودية وقطر والأردن وتركيا، وقد وصل عدد من تمّ تدريبهم إلى نحو خمسين ألف مقاتل.
إن التمرد المعتدل هو خرافة ابتدعتها أمريكا، بل كان التمرد الإسلامي السياسي مستمراً منذ اللحظة الأولى التي تسلّم فيها العرب القوميون العلمانيون مقاليد الحكم في عدد من الدول العربية وأبرزها سورية نقطة الارتكاز القومية في الوطن العربي.

حلفاء واشنطن الإسلامويون:
لقد تعاطت السياسة الأمريكية والغربية مع حركة الشارع العربي بازدواجية في المعايير، فكان التركيز إعلامياً وسياسياً على نبض الشارع في تونس ومصر واليمن وليبيا وسورية، متجاهلة تماماً ما يحدث في دول الخليج العربي من مطالبات واحتجاجات شعبية مطالبة بإنهاء الديكتاتورية الملكية والتحول إلى أنظمة ديمقراطية، وخاصة ما جرى شرقي السعودية والبحرين من قمع وسحق لانتفاضة الشعب هناك، وذلك يؤكد مدى الانتقائية المصلحية التي تعامل معها المسؤولون في الولايات المتحدة الأمريكية والغرب مع حركة الشارع العربي. ويختصر مسؤول أمريكي رفيع المستوى لمراسل صحيفة (Washington post) كرايغ ويتلوك بالقول: “إننا نمارس أقصى درجات الضغط الممكنة على الدول التي لا تبدي تعاوناً مع الإدارة الأمريكية، بينما نعطي الدول التي تتعاون معنا الأمان…”.
وعندما اتخذت القيادة السياسية في سورية القرار العسكري لدحر التمرد الإسلاموي الإرهابي المسلح، أقدمت الولايات المتحدة الأمريكية على تزويد هؤلاء المتطرفين بالسلاح للإطاحة بالحكومة البعثية العلمانية من خلال التعاون المشترك مع حلفائها وأتباعها في المنطقة، وأبرزهم المملكة العربية السعودية بما تمثله من محور روحي للمسلمين والحامل الأساسي للفكر الوهابي المتشدّد.
إلى جانب السعودية ظهر ومنذ بداية التمرد الإسلاموي المسلح في سورية داعم تركي جديد قديم لهذه العصابات المسلحة، والذي تخلّى عن كلّ العلاقات الحميدة التي كانت تتمتّع بها تركيا مع القيادة البعثية في سورية، مقابل العودة إلى الجذر السياسي الذي ينتمي إليه أردوغان وحزب العدالة والتنمية الإخواني، والذي كان يحلم بإعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية الإسلامية في المنطقة مستخدماً شعارات الديمقراطية وسيلة لبلوغ الهدف في تحقيق حلمه هذا. واتجهت تركيا لدعم منقطع النظير للتيارات الإسلاموية الإرهابية في سورية ومصر وليبيا، وذلك يجسّد تلاقي المصالح الآنية لكل المتآمرين على حكومة البعث في سورية على اختلاف أهدافهم وغاياتهم.
وكان ذلك مقابل دعم إيراني إسلامي لحكومة سورية شرعية بعثية وعلمانية تنأى بنفسها عن التبعية للولايات المتحدة والغرب، بشكل جعل من الشعوب العربية تتطلع إلى استعادة العالم العربي والإسلامي لبوصلته الحقيقية.

فرّق تَسُدْ:
إن أيديولوجية القومية العربية القائمة على اللغة المشتركة والمصير الواحد المشترك تمثّل أيديولوجية غريبة عن الولايات المتحدة الأمريكية بكيانها المهجّن المائل للغموض، لذلك كان ينبغي على الحكومات الأمريكية لتحقيق أهدافها ومصالحها الوقوف في وجه المدّ القومي البعثي العلماني العربي، لأنها تعلم تماماً بأنه يجسّد المقوّض الرئيسي لإكمال سيطرتها على منطقة الشرق الأوسط، وظهر هذا جليّاً في الاحتلال الأمريكي للعراق وسعي (بول بريمر) عام (2003م) لتنفيذ توجيهات البيت الأبيض في تمزيق الشعب العراقي إلى كانتونات طائفية– عرقية، وتشكيل حكومة سياسية في العراق على هذا الأساس، وفي ذلك يقول (روبرت فيسك): “نحب دوماً أن نرسم خرائط تقسيمية للشرق الأوسط، وأن العراق كان دائماً على هذا النحو: الشيعة في الأسفل والسنة في الوسط والأكراد في الأعلى، في حين لم تظهر أي خريطة لواشنطن تظهر مناطق الشعب الأمريكي الأبيض والأسود…”.
لم يختلف نهج السياسة الأمريكية هذا في تعاطيها مع الحرب الإرهابية في سورية، فدعمت الخطاب الطائفي وأطّرت الصراع في قوالب طائفية بما يتلاءم مع الخطاب الوهابي الإخواني الإسلاموي، مع سعيها لإسقاط القومية البعثية العلمانية التي تدحض هذا النوع من التفكير السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

أصداء هتلر:
كانت أصداء هتلر الفكرية والعقائدية حاضرة في الحرب السورية من قبل الغرب والولايات المتحدة الأمريكية، وهو الذي عُرِف بكرهه الشديد للماركسية، وبأنها وسيلة تستخدمها الطائفة الدينية (اليهود) من أجل السيطرة على الحكم في البلاد، وقد تجسّد هذا الفكر الطائفي في تعاطي الولايات المتحدة مع القيادة البعثية في سورية في أنها تستغل القومية كأيديولوجيا قريبة من الماركسية لإبقاء سيطرتها على الحكم، هذا الإسقاط اتّبعته أمريكا لتشويه فكر العروبة والقومية البعثية الذي تنتهجه القيادة السياسية في سورية، من أجل نبذ السياسة السورية عن خارطة السياسة العالمية وعن الرأي العام العالمي، وهو الأسلوب نفسه المنتهج في مكاتب الإخوان المسلمين في دول الغرب. وهنا نتساءل: كيف لقيادة سياسية تُقدّم لها الإغراءات من كل حدب وصوب من أجل تقديم أوراق اعتمادها للمصالح الأمريكية أن ترفض ذلك في سبيل حرصها الشديد على المصالح والحقوق العربية كاملةً، ويظهر ذلك في فكر القائد المؤسّس حافظ الأسد المتجسّد بالسلام العادل والشامل وإما لا شيء؟؟.
وكيف لقيادة البعث السياسية في عهد الرئيس بشار الأسد أن تكون في هذا المنحنى وجلّ ما حدث في سورية من تدمير وخراب وسفك للدماء وإضعاف للحكومة واستقرارها هو نتيجة عدم خضوعها للمصالح الأمريكية؟؟.
لذلك فإن القوميين العرب في الشرق الأوسط يسمّون وفقاً للدعاية الغربية التي تقودها الولايات المتحدة “بالطائفيين” الذين ينفّذون مخططات طائفية تهدف إلى التحكم بالأكثرية الدينية، ففي العراق أرادت الولايات المتحدة الأمريكية أن يُعرَّف القوميون العرب العلمانيون من قبل الأكثرية “الشيعية” العراقية على أنهم “سنيون”، وفي سورية أرادت الولايات المتحدة الأمريكية أن يُعرَّف القوميون العرب العلمانيون من قبل الأكثرية “السنية” على أنهم “علويّون”، وليس على أنهم قادة حركة الوحدة العربية ضد الهيمنة الغربية بذات الشكل الذي صوّر الدعاية النازية والغربية الأيديولوجيات التحررية ومنها الماركسية على أنها طائفية وعنصرية واستبدادية.

إمبراطورية سوق المال الأمريكي:
إن مقاصد السياسة الأمريكية في العالم يمكن أن تتلخّص وفقاً لما يصدر من تقارير مراكز البحوث والدراسات الإستراتيجية الأمريكية ومؤسسات الأمن القومي الأمريكي، والتي أصدرت وثيقة لعام (2005م) تنصّ على أن “القيادة الأمريكية يمكن ويجب عليها أن تقود الاقتصاد العالمي…”، وتبعتها وثيقة إستراتيجية الأمن القومي لعام (2006م) وتنصّ على أن “إحدى الطرق التي يمكن للولايات المتحدة اتباعها إذا كان ذلك ضرورياً حين تكون مصالحها معرضة للخطر هي استخدام القوة العسكرية ومن جانب واحد إذا لزِم الأمر…”.
وعليه فإن المصالح الربحية للشركات الأمريكية وحرية رأس المال دون قيود تعكس السياسة الخارجية الأمريكية والدول التي تنتهج النهج نفسه، وهذا يفسّر سيطرة المصرفيين –المليارديريين– والمستثمرين الأثرياء– وعمالقة الشركات على الحكم والقرار السياسي فيها، فالأغلبية الساحقة لأعضاء مجلس الكونغرس والشيوخ الأمريكي والمتنفذين في السياسة الأمريكية هم من السيناتورات البرجوازيين ذوي الثروات المالية الطائلة والمفتوحة على مفاصل الاقتصاد العالمي.

شهد شاهد من أهلهم..
يمكن لنا من خلال قراءة هذا الكتاب أن نشير إلى المهنية والموضوعية التي تعاطى معها الكاتب الأمريكي، والاحترافية والأمانة العلمية التي تمتّع بها المترجم، ويمكن تلخيص مقاصد هذا الكتاب في أن الحرب التي مازالت تمارس على سورية إنما هي امتداد لصراع سياسي وعسكري قديم ما بين القيادة السياسية البعثية العلمانية بفكرها القومي وبين ثلاث قوى: التيار الإسلاموي المتشدد متمثلاً بالإخوانية والوهابية ومن يمشي في صفهما، والصهيونية العالمية المتمثّلة بالكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة، ورأس المال الأمريكي بما يمثّله من تجسيد للقيادات السياسية الأمريكية المتعاقبة ذات النهج الرأسمالي السلطوي الواحد.
ويشكّل صمود سورية وقيادتها القومية العلمانية خلال هذه الفترة الزمنية الطويلة وخصوصاً بعد (2011م)، وبعد أن اتُخذ القرار بضرورة إزالة هذه العقبة القومية من درب المصالح الإمبريالية الصهيونية العالمية، وباستخدام جميع الوسائل لتحقيق ذلك عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، انتصاراً كبيراً لم يأتِ من فراغ، ويعبّر عن قاعدة جماهيرية واسعة لهذا الفكر، سواء في سورية أو على صعيد الشعوب العربية.
هذا الصمود من القيادة والجيش والشعب بوجه كل هذه الضغوطات السياسية والعسكرية والاقتصادية، لا يمكن إلا أن يعبّر عن التفاف هذا الثلاثي في مواجهة الخطر المحدق بهم، ورغم كل الحصار والعقوبات الاقتصادية الخانقة على الشعب السوري لا تزال سورية خارج دائرة الاقتصاد العالمي الحر الخادم للمصالح الأمريكية ومن أقل الدول مديونية على مستوى العالم بأسره.