دراساتصحيفة البعث

ترامب وفقدان التوازن السياسي الأمريكي

ريا خوري

من ضمن منهج الرئيس الأمريكي دونالد ترامب السياسي، أنه لم يترك فرصة واحدة تمرّ من دون أن يردِّد شعاره الصارخ “أمريكا أولاً”، هذا الشعار يتخذه طريقةً ومنهجاً لسياساته المتناقضة في كثير من الأحيان. فهو لا يأتي على ذكر أية أزمة من أزمات المنطقة العربية بشكلٍ خاص والشرق الأوسط بشكلٍ عام إلّا ويكرّر مقولته الشهيرة التي صدَّعت رؤوس الساسة والعسكر (لا للحروب الأبدية)، أي رفض الانخراط والتورّط في مزيد من نزاعات وصراعات المنطقة.
في سورية من الصعب جداً فهم كيف يتبنّى هذه التوجهات وتلك الخطط، ثم يحيط نفسه بمساعدين يملكون خبرة عالية في إدارة الحكم والدولة، ولديهم رؤى وتوجهات مختلفة، بل متناقضة تماماً مع ما يدعو إليه الرئيس ترامب. لذلك يتعيّن عليه شرح وتفسير هذا التناقض وهذا الخلط، وهو الذي أوجد الخلافات الحادة داخل مجلس الشيوخ والكونغرس وامتعاض كبار ضباط البنتاغون. والسؤال هو: لماذا يختار مساعدين لا يشاركونه أفكاره وتوجهاته المتناقضة نفسها؟ ونحن نعرف أنَّ نائبه مايك بنس هو أحد أهم وأكبر المختلفين في الرؤية والتوجّه معه والمحسوب على اليمين الصهيوني المتطرف، وكذلك أيضاً وزير الخارجية مايك بومبيو وهو من كبار أقطاب المحافظين الجدد المتشددين والمتطرفين أو على الأقل من المقربين جداً منهم.
في وقت سابق، انضم إلى تلك الإدارة اثنان من أشد صقور هذا التيار اليميني المتشدّد، هما اليوت ابرامز المبعوث الرئاسي للأزمة الفنزويلية، وجون بولتون المندوب السابق للولايات المتحدة في هيئة الأمم المتحدة، ومستشار الأمن القومي السابق، وهما من مهندسي غزو العراق وتدميره واحتلاله. وشأن أعضاء التيار اليميني المحافظ المتشدِّد يتبنّى هؤلاء جميعاً الأفكار والتوجهات نفسها التي تفترض أن للولايات المتحدة الأمريكية رسالة عالمية ينبغي أن تؤديها بنشر مبادئها الأساسية، وفي مقدمتها الديمقراطية، وحقوق الإنسان، وآليات التجارة والسوق العالمية والقضايا الاقتصادية. وفي سبيل ذلك يستبيحون كلّ القيود القانونية والتشريعات والأسس التي تنطلق منها المبادئ الأساسية والاعتبارات الإنسانية، ويبيحون لأنفسهم استخدام القوة المفرطة ودبلوماسية المدفع لفرض قيمهم، بما في ذلك الغزو وتدمير البلاد وتغيير نظم الحكم، وشنّ ما يطلقون عليه “بالضربات الوقائية”. باختصار الولايات المتحدة الأمريكية في عُرفهم يجب أن تظلَّ “شرطي العالم”، وهو توجّه يرفضه دونالد ترامب بشكل علني وصريح.
لقد أدَّت هذه التناقضات بين الرئيس ومساعديه وبين الكونغرس الأمريكي ومجلس الشيوخ وكبار ضباط البنتاغون إلى خلافات حادّة على مستوى الرؤية، وإلى تناقضات كبيرة وصريحة في التطبيق، ومحصلتها أظهرت غلبة آراء المساعدين. ومثال على ذلك رفض الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الحروب الأبدية كما يُعلن، في حين كاد أن يُشعل حرباً طاحنة مع إيران عندما استجاب لإلحاح مساعديه باغتيال قائدها العسكري قاسم سليماني. وبينما حاول الانسحاب من سورية، وأعلن ذلك مرتين لم يستطع تنفيذ قراره وتراجع بصمت دون تبرير منطقي، وأقصى ما فعله هو الابتعاد عن الحدود مع تركيا بعد تسويات خاصة وعقد اتفاقيات سرية وعلنية، لكن بقيت القوات الأمريكية في سورية. كما أراد الانسحاب من المناطق الساخنة وبؤر النار في الخليج والشرق الأوسط إلا أنَّ ما حدث هو العكس، فبدلاً من تقليص القوات العسكرية أرسل المزيد منها. ووفقاً لبيانات وزارة الدفاع الأمريكية تمّ إرسال نحو 14 ألف جندي إضافيين بين شهري أيار وتشرين الأول من العام الماضي 2019، وبعد استشهاد الفريق سليماني، نشرت الوزارة 4500 جندي آخرين. وبغض النظر عن الطرف الذي يفرض إرادته في النهاية، الرئيس ترامب أم المساعدين، فإنَّ التناقض الحاد في التوجهات بينَ الجانبين يحتاجُ إلى تفسير بالفعل.
كان كلاوس رين أستاذ العلوم السياسية في الولايات المتحدة، وهو مؤسّس (معهد دراسات الدولة) في الجامعة الكاثوليكية الأمريكية ويحتل مركزاً مرموقاً قد تصدى لهذه المحاولة، فهو يرى من وجهة نظره أن هناك ثلاثة تفسيرات محتملة، أولها أنّ دونالد ترامب لا يعي ولا يفهم بالضبط أبعاد وتداعيات واستحقاقات المبادئ التي ينادي بها. وعلى ضوء مفاهيمه وثقافته المحدودة وخبرته الضئيلة، فإن اللاعبين المُحنّكين المحيطين به يتلاعبون بعقله بسهولة ويصيغون نصائحهم وتوجهاتهم في صورة تبدو متوافقة مع توجهاته أو مفيدة له على الصعيدين الداخلي والخارجي.
التفسير الثاني المحتمل أنَّ رفضه للتدخلات الخارجية ليس أكثر من تصريحات طنانة دعائية، وتكتيك لاستقطاب أصوات الناخبين لمصلحته. ولعلَّ قُربَه من الإنجليكيين الذين يمثّلون العمود الفقري لكتلته الانتخابية، وهم أشد المتحمسين للتدخل العسكري في الشرق الأوسط وإقامة الحروب المدمِّرة، يعضّد هذا التفسير.
الاحتمال الثالث هو أنّه فيما يتعلق بالسياسة الخارجية الأمريكية، فإنّ الرئيس ليس هو من يقرّر في النهاية، وبتعبير أستاذ العلوم السياسية الأمريكية كلاوس رين ليس لاعباً حراً، فهو يفعل ما يُملى عليه، وفشله بتنفيذ الانسحاب العسكري من سورية يؤكّد ذلك.
وقد تكون الاحتمالات الثلاثة مجتمعةً هي الأقرب لشرح وتفسير هذا التعايش الغريب بين الرئيس ترامب ومساعديه الذين يتبنون كل طرف منهم، على الأقل علناً، وهم أصحاب توجهات متعارضة. ومن المؤكد أن دونالد ترامب لا يكترث كثيراً بذلك التناقض، هذا إذا كان متنبهاً أو مدركاً لوجوده أصلاً!.
من هنا بدأت الأصوات تتعالى باتجاه عزل الرئيس دونالد ترامب، لكن لا يمكننا فهم عملية العزل التي يقودها الديمقراطيون في مجلس النواب، وتوجيه اتهامات للرئيس ترامب بإساءة استخدام سلطاته التنفيذية، والصراع حول صلاحيات الرئيس العسكرية، وقرار الحرب، ولا يمكن أيضاً فهم القرارات الأخيرة التي اتخذها الكونغرس الأمريكي، بما فيها القرار الأخير بوقف الدعم الرئاسي للتحالف في اليمن، إلّا في ضوء الصراع الحاد بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، واستعادة ما بات يُعرَف بـ”نظام الكوابح” الذي يُعيد للنظام السياسي الأمريكي الأساسي توازنه واستقراره، ولا يمكن فهمه أيضاً إلّا في رغبة الكونغرس ورغبة الديمقراطيين الذين يُسيطرون على مجلس النوّاب لردّ الاعتبار لدور الكونغرس الذي فقده نوعاً ما، وخاصة في مجالات السياسة الخارجية للولايات المتحدة.
هذه الرغبة الجامحة في صناعة رئيس بلا قيود، ودور أكبر للكونغرس، ليست بالتقليد الجديد في السياسة الإدارية والقوانين والتشريعات الناظمة، بل طغت هذه الرغبة على مراحل عدة في النظام السياسي الأمريكي، وإنْ بدت مظاهرها أكثر مع إدارة الرئيس دونالد ترامب.
ولا شكّ في أنّ دونالد ترامب نجح في التأسيس لرئاسة تتمحور حول شخصيته الفردانية المميزة، وخلق ما بات يُعرف اليوم بحقبة (ترامب الرئاسية) التي تميّزه عن غيره من رؤساء للولايات المتحدة، حيث يبدو أنّه متشابك مع نفسه وإدارته ومع من حوله. فمنذ توليه الرئاسة اتخذ العديد من القرارات الأحادية داخلياً، وخارجياً، وكانت لها تداعياتها الخطيرة على الصعيدين الداخلي والخارجي. فقد ذهب بعيداً عن حلف الناتو (حلف شمال الأطلسي) الحليف التقليدي للولايات المتحدة، وخرج من اتفاقية المناخ التي وقّعتها الولايات المتحدة في أعوام سابقة، وانسحب من الاتفاق النووي مع إيران وأحدث بذلك خللاً دولياً، إلى جانب قراراته في الاعتراف بمدينة القدس عاصمةً للكيان الصهيوني، ووقف كل المساعدات عن السلطة الوطنية الفلسطينية، وكذلك أوقف كل المساعدات المقدمة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، وانسحابه من أكثر من منظمة دولية وترك فراغ في الكثير منها، إلى جانب تهديده للعديد منها. ومن أكثر القرارات خطورةً انسحابه من الاتفاق النووي مع روسيا والتهديد بعدم تجديد اتفاقية سولت، وفرضه الضرائب الكبيرة على كل السلع التجارية مع الصين، وكندا، والمكسيك.
وفي الواقع، إن هذه القرارات غير المدروسة العواقب لا يمكن أن تُفهم إلّا في ظل تراجع دور الكونغرس، وعوامل أخرى ساهمت في تقوية السلطة التنفيذية مقابل السلطة التشريعية، بما يعرّض مبدأ “الكوابح”، ويعرّض دور الكونغرس للتراجع. وفي الحقيقة، فإنّ المشكلة تتجاوز الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وإدارته، لتعود لعملية سياسية تراكمية وطويلة في تراجع دور القوى المقيِّدة لسلطة الرئيس الأمريكي. وهذه العوامل يمكن تلخيصها في تنازل، أو تراجع دور الكونغرس، وتراجع دور وقوة الجهاز الإداري البيروقراطي المسؤول عن تنفيذ القرارات الرئاسية، أو عرقلتها، وفي تراجع دور، وقوة، ونفوذ التحالفات الدولية. ولعلّ أبرز عاملين ساعدا الرئيس ترامب في هذه القرارات الرئاسية غير المقيدة بحدود، دور الكونغرس باعتباره يمثل السلطة التشريعية حسب الدستور الأمريكي، والكونغرس يتكوّن من مجلسين، الأول مجلس النواب والذي يتناسب عدده مع عدد سكان كل ولاية ويتكوّن من ٥٣٤عضواً، ومجلس الشيوخ الذي يتكوّن من مئة عضو، أي عضوين عن كل ولاية، ومجلس الشيوخ يسيطر عليه الجمهوريون الذين يشكّلون طوق الدفاع والحماية للرئيس. وعلى الرغم من أنّ النظام السياسي الأمريكي حسب الدستور هو نظام رئاسي، ويقوم على مبدأ الفصل المطلق بين السلطات، ولكن وضع المؤسّسون الأوائل العديد من المواد، درءاً للتخوف من تحوّل الرئيس إلى ديكتاتور غير مقيّد، لذلك تمّ وضع قوانين تمثّل عمل المكابح سمّي بـ”نظام الكوابح”. فكما رأينا أنّ الرئيس الأمريكي يصادق على قرارات الكونغرس، ورفضها إذا أراد، واستخدام الفيتو، وبالمقابل يملك الكونغرس صلاحيات كبيرة وواسعة إزاء الرئاسة في مجال السياسة الخارجية، وتوقيع المعاهدات والمواثيق، وفي مجال قوانين الحرب والسلطات المالية، فالمال يبقى بيد الكونغرس استناداً لمبدأ لا ضريبة من دون تمثيل، وهكذا يمكن ضبط إيقاع السياسة الداخلية والخارجية.