ثقافةصحيفة البعث

تاريخ تطور نظرية الإبصار في الحضارة العربية

أنشأ العرب حضارة عريقة امتدت عبر التاريخ، وارتقت على عهدهم العلوم كلها، وانصرف علماؤهم إلى البحث والتأليف في جميع المجالات، فخلفوا كنوزاً من المعرفة ضمن العديد من الكتب التي تشهد بما قدموه للإنسانية، وقد دوّن العرب نتاجات أفكارهم في مؤلفات ضخمة شملت علوم الطب والصيدلة والهندسة والحساب والكيمياء والطبيعيات والفلك والفلسفة… إلخ، وهي تشهد على أصالة الحضارة العربية بالإضافة إلى كونها تأريخاً لمراحل تدوين الفكر الإنساني، ومعظم تلك المؤلفات لم تزل حتى يومنا هذا مخطوطات غير محققة أو مدروسة.

يتضمن كتاب التاريخ نظرية الابصار في الحضارة العربية للدكتورة بثينة جلخي -الصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب- دراسة عن تاريخ تطور نظرية الإبصار بدءاً من إقليدس الذي أدى كتابه “المناظر” دوراً مهماً في التأثير في الفكر العربي الفلسفي والطبي النظري الفسيولوجي في المرحلة العربية. ومن المعروف أن الكندي قد دافع عن نظرية إقليدس في الإبصار، وتبنى بعض آرائه في حين نقد بعضها الآخر، وذلك لأنه يرى فيها نقصاً لابد من استدراكه.

وقد استمر تأثير إقليدس في العلماء والفلاسفة العرب بين مؤيد ومعارض بدءاً من إنجازات حنين بن إسحاق في حقل الفسيولوجيا العينية مروراً بمحاولات الرازي الجريئة للرد على جالينوس في حقل البصريات الوظيفية، وبابن سينا الذي شرح آراء أرسطو وبابن الهيثم الذي عارض أصحاب الشعاع وأولهم إقليدس وانتهاء بكمال الدين الفارسي شارح كتاب المناظر لابن هيثم.

واستكمالاً للموضوع وبمنزلة مقدمة فلسفية لابد منها لفهم التطور التاريخي، ولفهم آراء إقليدس درست نظريات الإبصار وكيف تطورت وتشعبت عند الفلاسفة والرياضيين والأطباء ودرسنا حجج بعضهم ضد بعض وردودهم على هذه الحجج.

إن محاولة اختصار جميع الآراء التي حاولت تفسير آلية الإبصار مسألة مهمة للتقديم لكتاب من هذا النوع وخاصة اللغة العربية، التي تكاد تخلو من كتاب في تاريخ العلم أو في تاريخ الفلسفة يلخص أو يعرض نظرية الإبصار. هذا على نقيض ما هو موجود في اللغات الأخرى إذ نجد دراسات جعلت موضوع آلية الإبصار معروفاً لمن يجيد هذه اللغات كالألمانية مثلاً وما قدمه فيدمان وتلامذته، والإنكليزية كدراسات ليندبرغ وصالح عمر.

وقد حقق الدكتور عبد الحميد صبره عدة مقالات من كتاب المناظر لابن الهيثم وترجمتها إلى الانكليزية وذلك بعد أن عرّفنا الأستاذ مصطفى نظيف محتوى الكتاب. حاول الأستاذ ماكس أن يصنف المفكرين العرب في ثلاثة أصناف من حيث اهتمامهم بآلية الإبصار الصنف الأول الفلاسفة، والثاني هم الرياضيون، والثالث هم الأطباء إلا أن مقالة مايرهوف التي صنف فيها المفكرون العرب قد تقادم عليها الزمان بسبب اكتشاف مسهمين كبار في موضوع الإبصار.

يتضمن هذا الكتاب دراسة مهمة ومستفضية عن تطور نظرية الإبصار في التراث العلمي، إذ سيجد القارئ في هذا الكتاب أهم ما كتب عن آلية الإبصار مشروحاً ومؤرخاً، وكيف تطورت وتشعبت عند الفلاسفة والرياضيين والأطباء وعلماء الطبيعة وحججهم في إثبات آرائهم، علماً أن محاولة اختصار جميع الآراء التي حاولت تفسير آلية الإبصار مسألة مهمة للتقديم لكتاب من هذا النوع وخاصة باللغة العربية التي تكاد تخلو من كتاب في تاريخ العلم يلخص أو يعرض نظرية الإبصار.

جاء هذا الكتاب في بابين رئيسيين، الباب الأول بعنوان “نظريات الإبصار عند اليونان” ويتضمن عدة فصول، الأول يقدم تطور نظرية الإبصار قبل إقليدس حيث عُني الإنسان منذ القدم بمراقبة الظواهر الطبيعية ومحاولة فهمها، وفي مرحلة تالية حاول المفكرون تفسير هذه الظواهر، ولعل هذه المحاولات كانت أولى الخطوات في الطريق الطويل للفكر الإنساني الذي كانت الفلسفة إحدى ثماره الأولى.

والفصل الثاني تضمن نظرية الإبصار عند أصحاب الشعاع من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع الميلادي، والثالث نظرية الإبصار عند الطبيب جالينوس، والرابع نظرية الإبصار عند الإسكندر الأفروديسي.

أما الباب الثاني جاء بعنوان “نظريات الإبصار عند العرب”، فقد خلف اليونانيون تراثاً علمياً ضخماً، أخذه العرب بعد أن محصوه وأخضعوه لمحك العقل وناقشوه وأعملوا الفكر فيه، ومن هنا كان اهتمام العلماء العرب بدراسة آراء اليونانيين في آلية الإبصار ومناقشتها، ودراسة الحجج التي وضعوها في إثبات آرائهم وحججهم في استنكار بعضهم للآخر كل من وجهة نظره الخاصة، فقد كان العلماء العرب أمام نظريتين: الأولى نظرية الشعاع التي تقول بخروج شعاع من العين إلى المبصر، والثانية نظرية الانطباع التي تقول بانطباع صورة المبصر في العين. وتضمن هذا الباب أيضاً عدة فصول الأول نظرية الإبصار عند الكندي، والثاني نظرية الإبصار عند حنين بن إسحاق، والثالث نظرية الإبصار عند الرازي، والرابع النظرية عند الفارابي، والفصل الخامس نظرية الإبصار عند ابن سينا، والسادس النظرية عند ابن الهيثم، والفصل السابع النظرية عند البيروني، والثامن عند ابن رشد، والتاسع عند فخر الدين الرازي، والفصول الباقية عند الطوسي وصلاح الدين الحموي وكمال الدين الفارسي.

سيكون كتاب “تاريخ تطور نظرية الإبصار في الحضارة العربية” حلقة في سلسلة من الكتب في تاريخ العلوم من الواجب وضعها في متناول القراء والباحثين المهتمين بتاريخ التراث العربي كخطوة أولى على المسار الطويل الذي يوجهنا نحو نهضة علمية حقيقية.

جمان بركات