ثقافةصحيفة البعث

الأطفال ومرحلة الخربشة من عمر صفر وحتى 3 سنوات

 

 

مع كل حركة تبدر ممن حوله، كان رأسه الصغير يلتفت، عيناه الصغيرتان تجولان على كل ما يحيط به. ويكبر قليلاً، ليدرك أن بعض الأشياء تترك آثاراً، وبمقدوره الآن أن يسمع صوتاً من جهازه التنفسي وبمقدور من هم حوله سماع صوته أيضا. هاهو يصدر المزيد من الأصوات، ولأنه ينجح في ذلك فهاهو يكرر المحاولة مرة بعد أخرى، وحين يكبر أكثر سيقدر تلك الفرصة التي ستمكنه من مسك أداة تترك أثرا خطياً على المساحات من حوله، وسيكون لهذه الخطوط ديمومة أكثر من صوته. إنه خط منفصل عنه وبوسعه ملاحظته، لكن الكبار يستجيبون لأصواته أكثر مما يستجيبون لخربشاته تلك! ليكن.. سيعطيهم أصواته ويحتفظ بخربشاته لنفسه لتصبح لعبته الفردية التي يقوم فيها بينه وبين نفسه. إنها إشارات ترسم حركات لها مسارات على السطوح التي اختارها، يشارك برسمها جسده كله وليس يديه وذراعيه وحسب، أما أداته التي هي قلمه فيحملها بكل الطرق المحتملة والممكنة ليرسم بكل الاتجاهات والوضعيات الممكنة للجسد (واقفاً، جالساً، مستلقياً).
وكما تتعدد وضعياته، تتنوع حركاته أيضاً (مستقيمة، شاقولية، أفقية، دائرية…). وقد تصبح على شكل أقواس، وقد تكون مجرد ضربات تتسبب قوتها بثقب تلك الورقة بعدة أماكن.
ولخربشاته كل المساحات التي يصل إليها (الجدران، الطاولة، الباب) وكل ذلك تحكمه مسارات النمو الخاصة بكل مرحلة عمرية بالإضافة إلى افتتانه بخربشاته غير المنتظمة تلك. إنها عالمه الممتع ولعبته الجميلة يطلق عليها أسماء يستقيها من عالمه. وتتباين الخربشات بتباين الأطفال وتباين عالمهم، فهاهي خربشات رسمت بقوة على كامل مساحة الورقة، وتلك مجموعة من الخطوط المتقطعة والمتشابكة أحيانا والمتصالبة أحياناً أخرى، وكذلك تلك الكتل اللونية التي تملأ المساحات بعفوية وبدائية لتؤكد لنا أن خربشة طفل بعمر السنة تختلف عن خربشته حين يصبح بعمر السنتين، وشتان مابين ضرب الورقة في سن السنة، وجر القلم عليها في سن السنة والنصف.
إن ما يحكم هذا وذاك هو حتما تطور قدرات الطفل العضلية والعصبية التي تجعل طفلاً في عمر معين لا يرفع يده عن الورقة ويتجاوز حدودها في أحايين كثيرة، بينما نجد طفلا آخر يتعمد تكرار الحركات عن عمد وتصميم لينتقل بخربشاته إلى التنظيم ليعلن تطور قدراته أكثر فأكثر (حلقة، شكل حلزوني متعدد الدوائر…).
إنه إعلامٌ بأن الطفل اقترب من عامه الثالث، ماعادت الخربشة مجرد حركة جسد أو ذراع، وماعاد الموضوع مجرد أثر على الورقة، إنها أحاسيس عميقة يعيشها الطفل ويعبر عنها ليؤكد ذاته، ويدلنا على مقدار وعيه لنفسه، خطوط شاقولية تتوسع أكثر فأكثر، دوائر تظهر بقوة، وإشارات ضرب ومساحات مغلقة وخطوط تحاذي أطراف الورقة، وهاهي مخططات تظهر ترمز إلى (البيت، الشجرة،الشمس…الخ)
إنها خطواته الحثيثة لتنظيم خربشاته لتأخذ شكلا ومعنى نستطيع نحن الكبار أن نفهمها ونعرف معانيها، إنها نوع من الاتصال بينه وبين المحيط، وبالتالي بينه وبيننا، لنبدأ بسؤاله عن تلك الرموز البسيطة فيجيبنا بدون تردد: هذا أنا، هذا بابا، هذه ماما، هذا أخي.. وتتسع دائرة المعارف لتصل إلى الأجداد والأعمام والمعارف، إنه مجتمعه الأول الذي سيقص علينا قصة علاقته به.. إنها حكايته التي علينا أن نسمعها منه.. وأية حكاية.
هيام سلمان