ثقافةصحيفة البعث

“شمس بيضاء باردة”.. نقد ساخن لواقع بارد!!

ينظر الكثير من النقاد إلى ما اصطلح على تسميته بـ “الأدب النسوي” كجنس أدبي متفرد في خصوصيته، وهي تسمية خالفتها وناهضتها كاتبات قليلات على مستوى المشهد الأدبي العربي، رغم أن الاصطلاح لم يخلق من فراغ، بل استمد من خصوصية ماتكتبه المرأة عموما من قضايا تنحصر، غالبا بهموم الأنثى وشجونها. لكن من يقرأ رواية الكاتبة الأردنية كفى الزعبي “شمس بيضاء باردة” الصادرة عن دار الآداب ٢٠١٩، لابد وأن يستوقفه هذا التغريد خارج سرب السائد والمعهود بهذا الخصوص، حيث نراها في هذه الرواية تكسر تلك القوالب التي حاول النقاد حشر الإبداع النسوي فيها، وتتناول قضية جد عميقة وجريئة بدلالاتها ورمزيتها، وهي أزمة المثقف العربي المتمرد على التابوات بمختلف أشكالها وأجناسها، وتختار لبناء عالمها الروائي أصوات ذكورية بالغالب، في تماهٍ مع واقع عربي ذكوري بالدرجة الأولى، حيث تبحث في هذا الموضوع الشائك من الناحية العامة دون أن تغلب عليها أناها الأنثوية، إلا في جانب دفاعها عن المرأة في وجه النظرة الاجتماعية والدينية التقليدية الزائفة لها، وهو جانب تطرق إليه الكثير من الكتاب (رجال) أيضا. لذلك نجدها هنا تسعى لتغيير المنظور النقدي من الأدب الذي تكتبه المرأة وتختار شخصيتها المحورية شابا مثقفا ينتمي إلى بيئة ريفية بسيطة نتعرف من خلال يومياته، التي يتولى رواياتها، إلى عالم مليء بالتناقضات ضمن سلوكياته اليومية الاعتيادية.

“راعي” شاب مثقف يستأجر غرفة في حي فقير بالمدينة التي يعمل فيها مدرِّسا في إحدى مدارس الدولة، ومن خلال يومياته نقف عند شخصيات أخرى مهزومة نفسيَّا واجتماعيَّا “أحمد، مازن، صاحبة الحانة، عائشة، والدته، وغيرها” رغم نزوعها نحو التّمرد، لكنها عاجزة عن أحداث التغيير في واقع محكوم بعادات اجتماعية وثقافية صلبة يصعب إحداث طاقة انفراج مستقبلي فيها، لذلك نجد شخصيات كفى متقوقعة على ذاتها، مستسلمة لمصيرها، ناقدة سلبية، تنتظر نهايتها المأسوية بضعف خروف يساق إلى الذبح، رغم استحضارها لملحمة جلجامش كمعادل مثيولوجي تاريخي برمزيتها التي تعبر عن القوة بشخصية “أنكيدو” والبحث عن الخلود بشخصية جلجامش، لمنح شخوصها الضعيفة مسوغات فهم الواقع والتغلب عليه “لم يكن انكيدو متوحشا يعيش في البراري، يأكل العشب مع الظباء ويشرب الماء مع الحيوانات، بل كان شابّا حالما يحفر الأفق بعينه، يجلس على عتبة باب غرفة، متوثبا لأن يقفز إلى هذه الحياة، ويحقق غايات عظيمة ولد من أجلها..” وانكيدو هنا هو “راعي” الذي يصارع والده بقناعاته التحررية “الدينية والاجتماعية” ويقرر المضي في حياته العبثية التي رسمها لنفسه تلك الحياة التي بقيت ضمن حدود التنظير  والتهكم المجاني السلبي تجاه كل السلوكيات الاجتماعية التي تتحكم بمصائرنا وسيرورة حياتنا دون أن يمتلك شجاعة المواجه ورتق مساحة الشرخ بينه وبين الواقع العربي المتهالك الذي يصفه بطلها المحوري:”.. وسيوف لقطع الرؤوس، ومصائد معتقدات للجم الألسن، وخرابات مقفرة تهيم بها أشباح لازالت معذَّبة بوهم العدالة…” فالبطل”شاب حالم يبحث في الكتب عن شخصيات تشبهه، لكن طموحاته لم تخرج من بين صفحات الكتب، لأنه خط لنفسه منذ السطور الأولى للسرد مصيراً ليس أفضل من مصير العجوز الذي مات وحيدا في تلك الغرفة بلا نافذة وبقي فيها جثَّة متفسِّخة لأيام، دون أن يسأل عنه أحد، تلك الغرفة التي استأجرها راعي وبقيت صورة ذلك العجوز في مخيلته داخلها يرى مصيره يقتفي القدر ذاته، بما يشبه جلد للذات.: “..هل تنقذك القراءة؟، كان سؤال صديقتي مالكة الحانة يرن في أذني “لا، ياعزيزتي، لكنني أبحث فيها عن أناس يشبهونني، لعلي أقاوم عزلتي؛ أبحث عن مصائر أبطال يشبهونني، لعلي ألمح شكل مصيري”.

تنقسم الرِّواية إلى أربعة عشر نهارا وأربع عشرة ليلة، هي الأيام التي يقضيها “راعي” في غرفته البائسة يسترجع فيها سيرة حياته ضمن سرد يتداخل زمانيا ومكانيا تبرع كفى في الربط بينها للوصول إلى نص متكامل في بنائه ينتهي بنهارين وليلتين ليس لهما رقم هما اليومين اللذين يقضيهما بطلها في حالة هذيان قبل أن يساق إلى مصح الأمراض العقلية، في نهاية تريد الكاتبة القول فيها: إن مجرد التفكير بالتغيير في الواقع هو ضرب من الجنون والعبث، فالبؤس الفكري متجذر في العقل العربي حتى بات يستحيل إخراجه بقناعات فردية تأتي من هنا وهناك”.. يقولون: إن لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب.. تلك هي معاييرهم التي يتسلحون بها في مواجهة الحياة. إنهم ليسوا في حاجة إلى العلم والمعرفة، طموحهم أن يصبحوا ذئابا..”.

نص جريء بنقده للفكر السلفي والازدواجية التي تعيشها الأجيال العربية التي تتحاشى المجاهرة بقناعات تنويرية خشية من ردود أفعال اجتماعية متوقعة، لذلك تبقى مواقف حبيسة ذوات تواقة إلى التحرر لاتملك جرأة وإرادة التغيير. تغوص الكاتبة عميقا في تفاصيل القاع الاجتماعي المتهالك لتصور مشاهدها بدقة وتشويق سينمائي لافت باحترافية وانحيازه لفكرها وقناعاتها الضمنية التي تحرص على المجاهرة بها من خلال تحميلها لشخوصها المحورية التي تتحكم بمصيرها وتنطقها بما تريد دون مواربة أو تخفي خلف تأويلات لغوية مبهمة.

في “شمس بيضاء باردة “نحن أمام واقع ساطع بوضوحه، لكنه بارد في بؤسه وعجزنا أمام قسوته الفجّة التي يشعر بها من يصارع للتخلص منها والعبور نحو عالم دافئ بإنسانيته وتحرره.

رشحت الرواية إلى القائمة القصيرة للجائزة العربية للرواية “البوكر” ٢٠١٩. وهي الخامسة لها بعد “سقف من طين” و”عد إلى البيت يا خليل” و”ليلى والثلج ولودميلا” و”ابن الحرام”.

آصف إبراهيم