دراساتصحيفة البعث

العراق .. بين تهديدات ترامب وإخراج الأمريكيين من البلاد د.معن منيف سليمان

هدّد الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” بفرض عقوبات “غير مسبوقة” على العراق في حال أرغم قوّات بلاده على مغادرة أراضيه. وجاء تصريح الرئيس “ترامب” ردّاً على دعوة البرلمان العراقي، لحكومته إلى “إنهاء وجود أية قوّات أجنبية” على الأراضي العراقية. وأمام حجم ضرر العقوبات المتوقّعة ومخاطرها يسعى العراق إلى إيجاد حلول ليتجنّب تبعات العقوبات للحدّ من آثارها.

إن إصرار البرلمان والحكومة العراقيين بضغط من الشارع العراقي على إخراج القوّات الأجنبية من البلاد سوف يكون له تبعات هائلة ، فهل تدخل العلاقات بين الطرفين مرحلة جديدة يُضرب فيها العراق بعصا العقوبات الأمريكية من جديد أم يبقى ذلك في إطار عدم الجديّة والحرب النفسية كونها تفتقد إلى مسوّغ قانوني لفرض عقوبات على العراق؟

صوّت مجلس النواب العراقي في جلسةٍ استثنائيةٍ عقدها، بمشاركة رئيس الوزراء المستقيل عادل عبد المهدي، على قرار يقضي بإلزام الحكومة العراقية إلغاء طلب المساعدة المقدّم إلى “التحالف الدولي” لمحاربة تنظيم “داعش” الإرهابي، وإنهاء الوجود العسكري الأجنبي في العراق، ومنع استخدام أجوائه، فضلاً عن تقديم شكوى رسمية إلى مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة ضدّ واشنطن، على خلفية الهجمات التي نفّذتها أخيراً في مدينتي القائم وبغداد، وأسفرت عن مقتل قائد “فيلق القدس” قاسم سليماني، ونائب قائد فصائل “الحشد الشعبي” أبو مهدي المهندس.

هذا القرار أثار حفيظة الرئيس الأمريكي، ويتوقع من إدارة “ترامب” أن تتجه إلى تقويض الاقتصاد العراقي وربما تعلّق حساب المصرف المركزي العراقي، لدى بنك الاحتياطي الفيدرالي، في نيويورك، في خطوة يمكن أن تقوّض الاقتصاد العراقي الهش فعلاً. كما أن العقوبات يتوقّع أن تبدأ من إنهاء إعفاء بغداد من موضوع تعامله في شراء الكهرباء والغاز الإيراني، مروراً بوقف بيعه قطع الغيار والذخيرة للجيش العراقي الذي تبلغ أسلحته الأمريكية منها نحو/ 70 / بالمئة من ترسانته العامة، بما في ذلك مقاتلات “إف 16″، ويمكن لواشنطن استخدام العقوبات لمحاولة عزل ومعاقبة أي شخص أو كيان أو حكومة، بما في ذلك من فرض عقوبات على الشركات الأمريكية في حال عملت مع أخرى عراقية.

ومع بدء الإدارة الأمريكية بإعداد عقوبات ضدّ العراق، بسبب اعتماد برلمانه قراراً يدعو لانسحاب القوات الأجنبية من البلاد. يلخّص خبراء تداعيات فرض العقوبات المباشرة أو الثانوية على العراق بـ “انهيار الدينار العراقي ما يؤدّي إلى زيادة حجم التضخّم النقدي وزيادة حجم التضخّم المفرط ونزول القوة الشرائية للدينار وارتفاع غير مسبوق لأسعار البضائع والسلع ونزول قيمة المدخرات، إلى جانب ارتفاع مستويات الفقر وتفشّي البطالة وصعوبة توفير السيولة النقدية وعدم تمكّن الحكومة من سداد ديونها ورواتب الموظفين وامتناع المؤسسات المالية العالمية عن التعامل مع البنك المركزي العراقي والمصارف العراقية وتوقّف الدعم العسكري والمادي الأمريكي وانهيار قطاع الاستثمار وانسحاب الشركات النفطية”.

أثيرت التساؤلات في الأوساط الشعبية والأكاديمية حول تبعات أية إجراءات تتخذ ضدّ العراق، وفي ضوء ذلك، أصدر المجلس الاستشاري العراقي ورقة بحثية تضمّنت عشرة حلول لتجنّب تلك الآثار.

التقرير الذي حمل عنوان: “حلول ومعالجات مقترحة لتفادي آثار العقوبات الاقتصادية الأمريكية المحتملة على العراق”، أشار إلى أن “الاقتصاد العراقي لن يتحمّل أيّ نوع من التهديدات والمخاطر المتأتية من تلويح الولايات المتحدة بفرض عقوبات لذا فمن الأجدر تفادي أيّة عقوبات محتملة مباشرة أو غير مباشرة منعاً لتداعيات مماثلة يصعب تداركها لعقود قادمة”.

أما فيما يتعلّق بالحلول فاقترح المجلس الاستشاري مجموعة خطوات وهي: “تنويع مصادر الدخل لتقليل الاعتماد على مبيعات النفط، والاهتمام بالقطاعات غير النفطية مثل الصناعة والزراعة والسياحة، وتحويل نسب معينة من خزين الدولار لدى البنك المركزي إلى عملات صعبة أخرى، وتغيير أنظمة وقوانين المصارف وقانون البنك المركزي لمواكبة تطور الأنظمة المصرفية في العالم الحديث وفتح قنوات التعامل مع المصارف الأوروبية الكبيرة واعتمادها كمصارف وسيطة للتحويلات المالية وفتح السندات الحكومية”.

كما تضمّنت المعالجات المقترحة: “إتباع سياسة الأمن الغذائي وتأمين ما تحتاجه هذه السياسة من متطلبات لتحقيق الاكتفاء الذاتي وتشجيع الصناعات الغذائية والتعبئة والتعليب والتسويق الذي سينعكس بدوره على تشغيل المزيد من الأيدي العاملة العراقية والحدّ من تفشي البطالة، وإطلاق مبادرة لتشجيع التعليم الحرفي والتقني وإنشاء صندوق لدعم المشاريع الحرفية الصغيرة وتطوير الحوار الدبلوماسي مع الدول المؤثّرة في العالم وتفعيل التفاهم المشترك معهم ومع الولايات المتحدة الأمريكية، وتشجيع الاستثمار الأجنبي وإنشاء صندوق النقد السيادي من خلال تمويله بنسبة معيّنة من مبيعات النفط الشهرية”.

وفي حال خروج القوات الأجنبية من العراق، يجب على العراق الاستعداد لبعض الاحتمالات كما يرى محلّلون سياسيون إذ عليه إيجاد بدائل عن الدعم الفني العسكري، وخدمات الطيران، والأقمار الصناعية مع تهيئة محطات كهرباء ومصافي ومعامل تكرير لسدّ حاجة البلد من المشتقات النفطية أو استيرادها في حال إنهاء رخصة العراق جراء العقوبات الأمريكية لاستيراد الكهرباء والغاز والبنزين، كما يترتّب على بغداد الاستعداد لخطة دبلوماسية تقودها وزارة الخارجية العراقية لمحاولة منع أيّة عزلة دولية للعراق.

أعربت العديد من دول العالم الكبرى عن التزامها بالسيادة العراقية، ورفضها تهديد الرئيس الأمريكي “ترامب” بفرض عقوبات على بغداد إذا أجبرت القوات الأمريكية على مغادرة العراق. فقد أكدّت فرنسا وبريطانيا وألمانيا في بيان مشترك الالتزام بسيادة العراق وأمنه، وكذلك الالتزام بمواصلة قتال تنظيم “داعش” الإرهابي.

ويرى خبراء أن فكرة فرض حصار على العراق لا يمكن تحقيقها لعدة أسباب أولها إبرام عقود بمليارات الدولارات مع دول عظمى وهذه الدول لا يمكنها أن تفرّط بمصالحها أمام “ترامب” كما أن أمريكا في عام 1991، ليست كما هي الآن ولا يمكنها أن تنفرد بقرارها، فضلاً عن أن العراق هو سوق مهم لعدّة دول أخرى.

كما أنه لا يجب أن يخلط بين تهديدات “ترامب” الأخيرة والحصار الاقتصادي الذي عاشه العراق لمدّة ثلاثة عشر عاماً من قبل، فالعقوبات الاقتصادية كانت بقرار أممي وبتصويت من مجلس الأمن، أمّا العقوبات التي يتوعّد “ترامب” بتنفيذها فهي أحادية الجانب وتلزم الدولة التي أعلنتها فقط بمنع التعامل اقتصادياً مع العراق ولا تلزم قانوناً أيّة دولة بالمجتمع الدولي بمقاطعة العراق مع ملاحظة أن العراق لم يعد دولة مهدّدة للسلم الدولي ويعدّ نقطة جذب اقتصادية لذا لا يجب التخوّف من ورقة الضغط الأمريكية.

إن قصة الـ(35) مليار دولار التي هدّد “ترامب” بمصادرتها في حال تمّ إجباره على الانسحاب من العراق هي أموال عراقية مستثمرة في خزانة أمريكية، ويعدّ العراق الرابع عربياً على صعيد الحيازة، لذا كان لابدّ أن يدّخر المبالغ في خزانة البنك المركزي العراقي لتحاشي قرارات التجميد أو المصادرة من قبل أمريكا خاصّة أن لديها سوابق في ذلك. كما أن هذا الاستثمار غير مضمون وفيه مخاطرة كبيرة تتهدّد رأس المال والأرباح معاً ولاسيما أن الأموال العراقية مقابل سندات الخزانة أصبحت ورقة للابتزاز السياسي.

إن الولايات المتحدة قد غامرت بمشروعها في العراق الذي أسّست له في احتلال عام 2003، وفقدت مصالحها الجيوسياسية في غرب آسيا وهي شبه هزيمة قاسية وضرب لمصالحها في المنطقة. لذا فإن دولة مثل الولايات المتحدة لن تفعل ذلك مطلقاً مهما كلّف الأمر ولن تخسر صداقة العراق، لذا فإن تحليل هذه التهديدات ونتائجها من وجهة نظر علم الاقتصاد السلوكي هي محصلة للصراع والتصعيد بين الطرفين وجزء من الحرب النفسية للتخويف وإشاعة الهلع بين الناس عادة ما يطلقها المضاربون ومغتنمو الفرص لتحقيق الربح الطارئ بأجواء رديئة وغير نقية.

إن أموال البنك المركزي المودعة في البنوك الأجنبية محصّنة ولا توجد إمكانية قانونية لأية جهة للحجز عليها، أما بالنسبة للديون التجارية فقد سلف أن تمتّ تسويتها بموجب ضوابط نادي باريس إذ تمّ التوصّل إلى اتفاقية تسوية للموضوع، وتمّ إبرام اتفاقية دفع العراق بموجبها 400 مليون دولار إلى الحكومة الأمريكية لتقوم بدورها بتسوية الأمور مع الأمريكيين المطالبين بالتعويضات، لذا فإن كلّ ما يُثار بشأن هذا الموضوع لا أساس قانوني أو عملي له ولا خشية على أموال العراق إطلاقاً.

إن “ترامب” ليس لديه أيّ مسوّغ قانوني لفرض عقوبات على العراق. فالعراق يطبع عملته في سويسرا ما يعني أنها مدعومة بالدولار والذهب ولن تتأثّر بأية عقوبات خارجية كما يعدّ العراق رابع مصدّر للنفط وثاني احتياطي في العالم ولا يمكن الاستغناء عن النفط العراقي، وأنه حتى لو تمكّنت أمريكا من إقناع الأمم المتحدة بالعقوبات على العراق فإن الصين وروسيا سيرفضان القرار بسبب وجود السندات والاستثمارات لكلا البلدين.

إن جميع الحقائق السياسية والاقتصادية التي ذكرت آنفاً قد تجعل من الصعب على “ترامب” تنفيذ تهديده. ويبقى أمر إخراج القوات الأجنبية من العراق مطلب شعبي يجتمع عليه العراقيون في سبيل التحرر والسيادة الوطنية، وما المظاهرة المليونية التي خرجت منذ أيام إلا خير دليلٍ على ذلك.