ثقافةصحيفة البعث

“زهرة الريح.. وتبقى الجبال” في ميزان النقد

خلاصة لعمر طويل تمتد من لحظة الولادة وحتى لحظة الانتهاء من كتابة “زهرة الريح وتبقى الجبال”، حاول فيها الشاعر بديع صقور أن يكون عملاً جديداً ورسالة لكل إنسان على هذه الأرض، ولكل قرية تشبه قريته، ولكل وطن يشبه وطنه، فتحدث عن طفولته ومدرسته وحياة الفقر التي تعيشها قريته، وعن رحلاته وأسفاره والمدن التي زارها، وعن سورية.

عود القصب

وفي جلسة نقاش أدبي حول مجموعة “زهرة الريح وتبقى الجبال” في فرع دمشق لاتحاد الكتاب العرب أدارها الشاعر توفيق أحمد الذي قال عن الشاعر بديع صقور: نحتفي اليوم برجل اسمه عود القصب، جاءنا من شمال الشمس وجنوب النجوم، ومن شرق الماء ومن جهات الشعر، استيقظت طفولته على تلال زهرة الريح وسفوحها، تقاسم مع أهلها رغيف الحب وفيء التعب، ووعورة العيش وصحو النجوم وماء الينابيع، ودموع الودع، وذكريات الرحيل، كما أن أشعاره اتّسمت بالحوافز والدوافع من أصدقاء الشعر والثلج والنبيذ القاطنين جنوب العالم الذين اغتسل وإياهم بندى الحكايات، ومسافر معهم على أجنحة النوارس وأغاني رعاة الغيم والمطر، إنه يوزع تحياته على كل الذين مروا على البساتين أيامه بسلام، ولكل روحٍ تعشق الطفولة والأزهار والينابيع والثلج، وأيلول والطيور، ولكل روحٍ تعشق العيش على حدود قرنفلة تحلم بالندى والشمس، بالسلام والابتسامة والنسيم.

كما أنني أعتقد أنه في مجموعاته الشعرية كلها وعلى مدى زمنٍ ليس بالقصير أراد أن يكتب شعراً مستقلاً بمعنى أن يكتب شعراً يشبهه هو، وأراد أن يختط درباً شعرية لها نكهتها الخاصة، لا تلبس عباءة أحد، ولا تستعير ولعله أفلح في ذلك.

وتبقى الجبال

وبدأ القاص أيمن الحسن كلامه من العنوان حيث قال: هل القصد أن زهرة الريح تقتلع إذا تشتشتها عواصف الأيام الصعبة وتبقى الجبال؟!.. وكما أرى فالجبال أبقى من أي زهور على الأرض أياً كان، ولعل هذا يتقاطع مع مقولة إدوارد غاليانو: “يروح الناس وتبقى الجبال”، ومع تماهي الكاتب بهذه الزهرة كما في قوله: “وآه كم أنا شغوفٌ بك يا زهرة الريح لأنني مثلك زهرة ريح…”. مقطوعات أو نصوص قصيرة تقرأ بسرعة تترك داخلك كثيراً من الأسى والحزن الشفيف وأحياناً بعض الحنين إلى أيام ماضية فلا نعرف هل هي خاطرة وجدانية عميقة، أَم مقطوعة نثرية مرهفة، لذلك تسميها نصوصاً وتتمتع بها.

وأضاف الحسن: بديع صقور أينما ذهب يرافقه قلمه عبر جهات الأرض الأربع، فيسطر رؤاه عن رحلاته إلى أمكنة كثيرة في العالم جواً غالباً لذلك في شعره: “سرِّح بصرك كقطيع وعول فوق الجبال، رذاذ المطر يعانق عرائس الشمس، قوس قزح، وأسراب طيور تتماهى مع الغيم تبتعد الطيور يتلاشى الغيم تغيب الشمس وتبقى الجبال”، ها هو يلاحقه من مكان إلى آخر، فكأنه زار الدنيا كلها، لكن أكثر المناطق حميميَّة عنده ليحفظها في خلجات قلبه هي تلك العواصم في دول أمريكا الجنوبية التي تتحدث اللغة الإسبانية وهو يتقنها، ولا تغيب فلسطين العربية الغالية التي يحتلها كيان العدو الصهيوني الغاصب عن المشهد في سردية مرهفة موجعة، ويكمل ففي نقلة ذكية لماحة على أيدي الصهاينة، والقتلة الإرهابيين.

في الحقيقة، يعتقد المرء أن لديه الكثير ليقوله في حضرة كتاب ضخم كبير مثل “زهرة الريح.. وتبقى الجبال” فإذا به يطالع سيرة ذاتية لعود القصب، الشاعر المجلل بالحزن والخوف والدموع والشهقات، وسيرة بديع صقور ممزوجة بسيرة بلده وهي مرتقى الروح، ولا أَقول يسقطها لأن الروح ترتقي إلى بارئها، إذ تسكن هذه الأرض الطاهرة العظيمة وصولاً إلى سيرة وطنه من أقصاه إلى أقصاه.

الحوادث لم تتسلسل في الكتاب وفق تدرج زمني كما يرى الحسن، بل راجع المؤلف يلعب بالزمن عودة إلى الخلف، ثم رجوعاً إلى الحاضر واستشرافاً للمستقبل، ثم يعاود الكاتب الكرة من الماضي السحيق إلى الماضي القريب، ومنهما إلى الحاضر المقيت المعذب البائس، نعم لقد استشرى الإجرام محل العقل والخراب والسلوكيات غير الإنسانية وأصبحت خيانة الوطن والاعتداء على أبنائه فعلاً عادياً.

الهشيم

“الكتابة عن الكاتب صداقة مجروحة كحروف العواطف الطازجة”، هكذا قال الأديب حسين عبد الكريم عن الشاعر بديع صقور، وأضاف:

الكتابة شغف إعلامي، وتبرج كالحرائق في حضرة رغبات الاشتعال والمشقة والصعوبات، حين الهشيم يتلهى بالهشيم، أو شهامة الغرق لا تنقذها فنية الضفتين والنهر يهرول وراء السحابة.

اللغة حضور بطر جميل شرس كالأنوثة في مقتبل جنونها والعاصفة، تكنس الريح بالريح، وتدون البطر بالبطر، الاعتداد يكذب على الحقيقة، وتتموج الحرائق في أعصاب غابات الكلام وكروم الحبر، في الكتابات الوجدانية تحاول رائحة الحب أن تكبر على حساب أيّ عطر آخر، إلا الأحزان السامقة النبيلة، وهي الشرسة أيضاً والعنيدة والمزاجية والأخلاقية وبنت الإحساسات الكبيرة، تأملاتنا لا تتفوّه بما لديها خوف أن تبطش بها قناعات الضجيج.

بديع صقور في كتابه “زهرة الريح.. وتبقى الجبال”، وثق كثيراً بسطوة اللغة وثروة الحزن، بنى كل عمارات اللغة بالأحزان والذكريات، أية لغة واجهته بنى بها حيطان الفكرة، هو في أناقته يجتهد في انتقاء القميص ولفتة الأزرار وعافية العُرى، من السهولة، أن نودع ونفترق ونحزن والآخرون مثلنا يجدون في تعديد مناقب الوداعات ومحاسن أحزانهم، التأبين فعل ضعف، كتابة الحزن فعل حرائق، لا قناعة هشيم اللعنة والمفارقة ثم نعاني إذ فكر أن ما نكتبه يحتاج أصابع التمزيق لا أصابع الرضا والترويج، ينسى بديع صقور الكثير من أفعال حرائق الكتابة ويتذكر الكثير من الهشيم، الغيابات تُغري بالشهيق والأسى والأنين اللغوي.

جُمان بركات