دراساتصحيفة البعث

عــــودة القـــــوانـيـن المـــــــــارقــة إلـــــــــى فـرنســــــــــا

ترجمة وإعداد: إبراهيم أحمد

يعكس القمع البوليسي والقضائي المسلّط على الحركات الاحتجاجية في فرنسا مساراً تواصل لأكثر من قرن: قوانين استثنائية تمّ التصويت عليها على عجل لتصبح فيما بعد القاعدة. يقول الصحفي فرنسيس دي براسونسي، الذي كان سابقاً من مناصري الشرعية، على منبر اجتماع عام لمناصرة درايفوس: “يتهمونني بخوض حملة إلى جانب فوضويين وثوريين.. إنه لشرف لي أن أخوض مع هؤلاء المناضلين من أجل العدل ومن أجل الحقيقة”. دي براسونسي، الصحفي السابق في جريدة “لوتان” والذي كان سابقاً مؤرخاً رسمياً للسياسة الخارجية الفرنسية، واجه الشتم والسباب يومياً في الصحافة من أجل دفاعه عن النقيب ألفريد درايفوس، وإنما أيضاً بسبب انخراطه في هذه المعركة إلى جانب الفوضويين. لم يكن هذا التحالف سهلاً في شيء وهو مدين بالأساس إلى الظرفية التي خلّفتها القضية. لقد كان أنصار التحررية يخوضون حملة مناصرة لرفاقهم الذي أرسلوا إلى السجون تطبيقاً للقوانين التي تمّ سنّها قبل خمس سنوات رداً على الهجمات والاعتداءات الفوضوية. البعض منهم، على غرار إيميل بوجي وجان غراف اللذين يحملان فكراً مناهضاً للعسكرة، أظهروا تردّدهم في الالتزام بالدفاع عن النقيب البرجوازي والضابط السامي في هيئة الأركان، غير أنه وخلال العام 1898، تغيّر موقف بوجي الذي قبل بالكتابة ضد القوانين التي تستهدف أنصار العمل المباشر إلى جانب درايفوس، براسونسي وليون بلوم، الذي كان وقتها مراجع حسابات شاب في مجلس الدولة. وجد هذا التحالف غير المسبوق فضاءه التعبيري التحريري في مجلة للأدب والفن الطليعية وهي “المجلة البيضاء” التي كان يديرها وقتها أحد المتأنقين الفوضويين، وهو فيليكس فينيون، الذي تعرّض هو نفسه للسجن تطبيقاً لتلك القوانين المناهضة للإرهاب، قبل أن يتمّ العفو عنه.

في ربيع 1899، نشر فينيون كتيباً جمع فيه مقالات براسونسي وبوجي وبلوم (الذي يوقع تحت اسم «رجل قانون»). يستعيد الكتيب، الذي نشر تحت عنوان “القوانين المارقة للعامين 1893-1894″، عنوان مقال لهذا الأخير (بلوم) تمّ نشره منتصف عام 2019. تتيح قراءة هذه النصوص استكشاف أوجه شبه عجيبة بين ردّ فعل الجمهورية الثالثة الفتية إزاء الإرهاب الفوضوي، من ناحية، وبين التراكمات المعاصرة للقوانين السالبة للحرية التي استهدفت، مرحلة بعد أخرى، المعارضين السياسيين والمتظاهرين والمسلمين شديدي الإيمان، والإيكولوجيين الراديكاليين، وحتى المارة الذين قد ينطقون بكلمة جارحة في حق رجل شرطة، من ناحية أخرى.. في العامين 1893-1894 كما في القرن الحادي والعشرين، يصادق نواب في حالة تأثر بالغ بحدث اعتداء، تفقدهم قناعاتهم الديمقراطية، على قوانين استثنائية يتمّ التطبيع معها لاحقاً. قوانين استهدفت للوهلة الأولى الفوضويين وحدهم قبل أن تتوسّع لاحقاً لتشمل أيضاً المناضلين السياسيين من اليسار في مجمله وقبل أن تطال من باب الاحتمال كل الناس. لقد عرض بلوم نظريته ذات الصلة ومدارها: “لقد نجم عن هذه القوانين التي تستهدف الفوضويين، خلق تهديد للحريات الأساسية لكل المواطنين”. إضافة إلى ذلك، تسعى هذه القوانين باسم مكافحة البعد المادي الملموس للاعتداء، إلى المساس بالقول والفكرة والرأي، وحتى بالنوايا. كما كتب بلوم أن القانون الثاني المارق، أي القانون حول العصابات الإجرامية “يلحق الضرر بأحد المبادئ العامة لتشريعنا (…) بحسب نص هذا النص الجديد، يكتسي مجرد العزم وحتى الوفاق طابعاً إجرامياً”.

بعد يومين من الاعتداء الذي نفّذه أوغست فايان، صادق مجلس النواب على أول القوانين المارقة الثلاثة. كان الشاب الفوضوي قد رمى يوم السبت 9 كانون الأول 1893 في قاعة المجلس قنبلة تقليدية الصنع محشوة بالمسامير لم تتسبّب بمقتل أي شخص ولم تخلف أي جريح. تنزع الأسطورة، مع عودة الهدوء، إلى القول بأن الرئيس شارل دوبوي قد صرح وقتها: “أيها السادة، الجلسة متواصلة”. ترمز مثل هذه الكلمات حتى اليوم إلى الفكر التشريعي الهادئ للجمهورية. ومؤخراً، أعرب مستشار الدولة كريستيان فيغورو، مدير الديوان السابق لعدد من وزراء الداخلية والعدل، عن مشاعر الفخر بقدرة منظومتنا القانونية على احترام الحريات الأساسية حتى إزاء أبشع الفظائع. لقد قدم رجل القانون المرموق هذا، سنة 2017 ملابسات يوم 9 كانون الأول 1893 على أنها نموذج لردّ الفعل الديمقراطي في مواجهة الإرهاب: “إن قوة المقاومة هذه التي أبداها مجلس النواب الذي لم يقطع مداولاته، تبرهن للإرهاب ذاته أنه ليس مخولاً لضبط جدول أعمال المؤسسات في نظر الأمة”.

قياساً على ذلك، يمجّد الرجل رد الدولة سنة 2015 على الإرهاب، وهو رد جمع حسب رأيه بين استخدام حالة الطوارئ واحترام الحريات. لكن عملية القياس هذه تعتبر خارجة عن السياق: في الواقع وبعد اعتداء كانون الأول 1893 وفي ظرف يومين فحسب، صوّت مجلس النواب برئاسة دوبوي منذ 11 كانون الأول على أولى القوانين المارقة. لقد بيّن بلوم كيف أن مجلس النواب فقد برودة أعصابه كلياً وسنّ تشريعاً تحت ضغط الحكومة، التي وظفت الاعتداء من أجل تمرير كل ما تريده. هكذا، صوّت النواب حتى قبل أن يتمّ طبع مشروع القانون وقبل توزيعه عليهم.

يشكّل ذلك مؤشراً صارخاً على برودة الأعصاب والاعتدال. يعاقب أول القوانين المارقة تمجيد الجرائم أو المخالفات، قبل عقد من الزمن من ذاك التاريخ وخلال التصويت على القانون المهمّ حول حرية الصحافة لسنة 1881، كان البرلمانيون قد رفضوا أن يتمّ إدراج الجريمة نفسها ضمن المجلات القانونية المتعلقة بالصحافة، لأن ذلك يسمح بـ”مطاردة الفكر”، وفق عبارة المقرّر أوجين ليزبون. كان ذلك بالفعل ما وقع بداية من سنة 1893، عندما اعتقلت الشرطة أشخاصاً تفوّهوا بعبارات مؤيدة للفوضوية. إضافة إلى ذلك، يسمح هذا القانون بالإيقاف المؤقت لمن تفوّه بالعبارات محل الإشكال، أي اعتقاله قبل المحاكمة. لقد عبّر القاضي العالي فابريغات عن ارتياحه لكونه أضحى ممكناً، في ظل هذا القانون الجديد، “وخلال انعقاد اجتماع عام، توقيف منحرف”، مازال هذا القانون موجوداً حتى اليوم. بل أكثر من ذلك، تمّ تشديد نصوصه سنة 2014 بمبادرة من وزير الداخلية وقتها، برنار كازنوف، الذي سمح بأن تتمّ محاكمة جريمة تمجيد الإرهاب بصيغة المثول الفوري أمام المحكمة. نجم عن ذلك اعتقال العشرات من المتهمين ممن ليست لهم أي علاقة بالإرهاب، ولكنهم صرحوا بعبارات يمكن أن يطالها هذا التكييف القانوني الجزائي. غداة اعتداءات كانون الثاني 2015، انتقدت كلّ من منظمة العفو الدولية ورابطة حقوق الإنسان الأحكام الثقيلة الصادرة تطبيقاً للنص الجديد. أما القانون المارق الثاني والمتعلق بالعصابات الإجرامية، فقد أُدرج ضمن القانون مفهوم: الوفاق والمشاركة في وفاق، يمكن أن ينتج عنه (في غياب أي شروع في تنفيذ مخالفة)، العقاب والردع. كان بريسونسي يتخوّف من أن هذا النص قد “يطال، تحت مسمّى الوفاق والمشاركة في الوفاق، أفعالاً تستحق الردع بقدر ضئيل من قبيل اللقاءات والمحادثات الخاصة، والرسائل المتبادلة، وحتى الحضور خلال محادثة، أو الاستماع إلى بعض الأقوال”. لم يتطلّب الأمر أكثر من خمسة عشر يوماً كي تتأكد حقيقة هذه المخاوف في كانون الثاني 1894، كان العشرات من الأشخاص المصنّفين من قبل أجهزة الاستخبارات كفوضويين، محل عمليات تفتيش لمنازلهم ومقراتهم. قدّمت الصحف وقتها يومياً تفاصيل عدة حول عمليات الشرطة التي لم تفضِ في النهاية إلى أي عملية إدانة تقريباً. تتيح هذه القوانين تكثيف الإجراءات التضييقية التي تمسّ الحريات الفردية بعيداً عن الرقابة القضائية. كذلك كانت الحال سنة 1894 وأيضاً سنة 2015 عندما سمحت حالة الطوارئ بإجراء الآلاف من عمليات التفتيش الإدارية بما ينتهك حرمات العائلات المسلمة أو حرمات المناضلين الإيكولوجيين، دون أن تخضع معظم عمليات تفتيش المنازل هذه لرقابة قاضٍ. لكن تمّ الشيء نفسه بداية من شهر كانون الأول 2018 وعندما سمح وكلاء الجمهورية بتعليمات من وزيرة العدل نيكول بالوبي وفي كامل التراب الفرنسي، بتنفيذ عمليات إيقاف تحفظية لأعضاء في حركة “السترات الصفراء” يشاركون في المظاهرات.

هكذا، تحرم الشرطة آلاف المواطنين من الحرية لبضع ساعات أو لبضعة أيام دون أن يكون هذا الانتهاك لحقوقهم خاضعاً لرقابة قاضٍ مستقل، غير أن الموروث الأكثر أهمية من القوانين المارقة موجودة اليوم ضمن منطق الشبهة أو الاشتباه الذي يلوث القانون الجزائي، كما القانون الإداري. جريمة المشاركة في وفاق قصد ارتكاب أعمال عنف أو تخريب، التي أضحت اليوم مشهورة، ويعود إحداثها إلى سنة 2010 بمبادرة من النائب كريستيان إيستروزي من أجل مكافحة ما سمّاه “أعمال العنف الجماعية”، تمثل النسخة المخفّفة من صيغة الوفاق الإجرامي التي نص عليها قانون 1893. تسمح هذه الصيغة (مقترح إيستروزي) بمعاقبة مجرد النية، دون أن يتمّ حتى الشروع في ارتكاب أي عنف أو تخريب مادي. هذه الجريمة، التي يتمّ استخدامها بكثافة ضد أعضاء “السترات الصفراء”، أضحت تستخدم مستقبلاً من قبل أجهزة النيابة لحبس مجرد متظاهرين.

من ناحية الشرطة الإدارية، رسخ العامان المنقضيان من اعتماد قانون حالة الطوارئ (2015- 2017)، وإدراج حالة الطوارئ ضمن القانون العام، وبشكل مستديم، الفكرة القائلة بأنه يمكن للدولة أن تتخلّص من بعض العناصر الذين ترى فيهم الخطر. توجد مجموعة من الإجراءات والتدابير التي تسمح (استناداً فقط لإفادة شرطي دون مصدر ودون توقيع) بطرد سائق قطار أو ميترو، تمّ اعتباره ملتزماً جداً، أو بفرض الإقامة الجبرية على شخص مسلم، أو تنحية كل الأشخاص الذين تنظر إليهم الدولة كأعداء لها، من مواطن عملهم، معتمدة بذلك ثقة عمياء في شرطتها. يؤكد بلوم في خاتمة مقاله: “الجميع يقرّ ويعترف بأن مثل هذه القوانين غير جديرة مطلقاً بأن تكون من بين قوانيننا، قوانين أمة متحضرة، أمة أمينة نزيهة.. إنها لقوانين ترشح تسلطاً وبربرية وبهتاناً”!.