دراساتصحيفة البعث

“بيت الدمى” الأمريكي تقطنه أشباحٌ هائمة

 

علاء العطار

قال هارولد بنتر خلال خطاب قبوله جائزة نوبل عام 2005: “لم يحدث قط، لا شيء حدث بالمطلق، ولم يكن يحدث حتى أثناء حدوثه، فالأمر غير مهمّ، لم يكن محطّ اهتمام أحد، كانت جرائم الولايات المتحدة منهجية وثابتة وخبيثة ليس فيها ذرة رحمة، ولم يتحدث عنها سوى حفنة قليلة من الناس، وتستحق أمريكا بعض الإطراء على ذلك، فقد استخدمت التلاعب السريري بالسلطة في جميع أنحاء المعمورة، وتنكرت في الوقت نفسه بزيّ قوة الخير العالمي، إنه تنويم مغناطيسي بأسلوب ذكي، بل إنه لأسلوب خبيث وناجح للغاية”.
في حين يقبع رواة الحقيقة، أمثال جوليان أسانج وتشيلسي مانينغ، في غياهب السجون، ويعيش إدوارد سنودن في المنفى في روسيا، يهجع الأمريكيون في وكر وهمي أُنشئ لتحويلهم إلى جراء يخافون من الحقيقة، أم هو الظلام ما يخافونه؟ وهذا ليس جديداً، بل كانت الحال كذلك منذ مدة طويلة جداً، وأمسى هذا الوكر بيت دمى تسكنه أشباح هائمة، وهو مسكن إلكتروني مجهز بأجراس وصفارات إنذار وصور تتحرك أسرع مما تلحظه العين، وبات الأمريكيون يعيشون في كابوس تكنولوجيّ تسيطر عليه الحكومة الأمريكية والشركات الرأسمالية التي تروم السيطرة على جوانب الحياة كلها، وهذا هو الواقع بالرغم من الجهود الجريئة التي بذلها المنشقون ممن أرادوا استخدام التكنولوجيا لتحرير الإنسان، وبات يعيش كثير في هذا الواقع المفبرك الذي يُعرف باسم الدعاية، والنتيجة.. هلوسةٌ جماعية!.
قال المدّعي العام لولاية نيو أورليانز، جيم غاريسون، عن الواقع المفبرك الذي جعل الشعب الأمريكي مجموعة من الخاملين الجالسين في غرفة المعيشة يتناولون الأدوية ويشاهدون التلفاز، فيما تقوم ماكينة بلادهم العسكرية بحصد أرواح الملايين، ويخبرهم المذيعون بكل ما عليهم الخوف منه: “ابتداع هذه التفاهات وعدّها واقعاً مقبولاً وواقعاً غير مقبول ضروري لتحافظ الدولة العظمى على وجودها في وجه الخطر الأعظم، ألا وهو إدراك الناس لما يحدث فعلاً، فكل العوامل التي تساهم في ازدهار قوتها مبالغ فيها، وتطمس كل العوامل التي قد تكشف أثرها المدمّر للأمة، والنتيجة هي وضع الجماهير في موضع الذي يعيش في منزل لا تطلّ نوافذه على الخارج، إنما على لوحات جدارية، بعض هذه اللوحات مفزع يُذكر القاطنين بأهوال الخارج التي تحميهم منها ماكينة الحرب الأبوية، وبعضها قد يبهر الرائي، ويذكره بجمال الأشياء داخل هذا المنزل، لكن أسلوب الحياة هذا يشبه العيش في بيت دمى، وإن كان هناك درس تعلمنا إياه الحياة، فهو أنَّ العيش في وهمٍ لهو كارثة”.
أدت مجاهرة غاريسون بالحقيقة إلى تكالب جهود الاستخبارات الأمريكية لتصويره بصورة المجنون والمعتوه عبر ألسنتهم الإعلامية، ولو أنه نطق بذلك هذه الأيام، فعلى الأرجح سيسجنونه أو يقودونه إلى الفرار عبر الحدود كما هي حال أسانج ومانينغ وسنودن.
حرص أوباما وترامب على إسكات من يكشف أعمال الحكومة الأمريكية الفظيعة عبر التنكيل به بوحشية، وهذه الطريقة التي يعمل بها النظام الأمريكي، والمفارقة أن كل هذا في نظر الأمريكيين لا يحدث، وليس مهماً، بل إنهم لا يكترثون له، مثل عدم اكتراثهم بدعم أوباما للانقلاب في الهندوراس الذي أودى بحياة كثيرين على أيدي قتلة دربتهم الولايات المتحدة، ومن ثَمَّ تَشدُّق ترامب بأن جميع أولئك من “غير البيض” يفرون إلى الولايات المتحدة هرباً من جحيم خلقته الولايات المتحدة في بلدانهم، كما تفعل في أمريكا اللاتينية منذ مدة طويلة، فمن ذا الذي يهتم بالحقيقة؟ وهل لاحظ أحد كيف طمست وسائل الإعلام الغربية أخبار أولئك اليائسين الذين يطالبون بدخول الولايات المتحدة من المكسيك؟ كانوا يتصدرون ذات يوم العناوين الرئيسية في الصحف والأخبار، واختفوا في اليوم التالي، فباتوا مجرد أخبار!.
النيام السائرون
على الرغم من كل جرائم الولايات المتحدة وأكاذيبها، ينام الأمريكيون بلا مبالاة في الوهم الذي يخلقه بيت الدمى، فشجع ذلك حكومتهم على ارتكاب مزيد من الجرائم واختلاق مزيد من الأكاذيب، ولا تعنيهم مصائر رواة الحقيقة، أسانج ومانينغ وسنودن، ولا تهمهم مصائر السوريين والفلسطينيين والعراقيين واليمنيين والهندوراسيين والأفغان، وغيرهم من الشعوب الذين ذاقوا ويلات جرّتها أعمال جيشهم الوحشية. ونعلم تماماً أن هذه حال معظم الأمريكيين، فعندما يدلي 129 مليون أمريكي بأصواتهم لدونالد ترامب وهيلاري كلينتون في الانتخابات الرئاسية لعام 2016، نعلم أن البلاهة سائدة ولم يتعلّم أحد الدرس، وينطبق الأمر نفسه على من أدلى بصوته لأوباما وبوش وكلينتون وآخرين، إنها لحقيقة مقرفة، ولا شك أنها ستتكرر في انتخابات عام 2020.
ليس الشعب الأمريكي من بنى بيت الدمى، بل أسلحة الإدارة الأمريكية الدعائية والمتواطئون معها في وسائل الإعلام، لكن ذلك لا يجعل النيام أبرياء، ذلك أنهم قبلوا على مر العقود الواقع المفبرك ليريحوا بالهم، وفات على كثير منهم الدرس الذي علمه غاريسون، وعليهم أن يعرفوا ذنبهم، فهناك جهل عادي، وهناك جهل يُلام صاحبه عليه.