الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

والحرفِ إذا تجلّى

د. نضال الصالح
تمتلك لوحة التشكيلي المبدع أكسم طلاع أسرار بقائها في الذاكرة طويلاً، فتؤكّد بذلك نسبتها الحقيقية إلى الإبداع، وعلاقتها الحقّ بالمخيّلة التي هي شرط في جوهر هذا الإبداع، ولعلّ من أهم تلك الأسرار حساسيتها العالية في تحريض المتلقي على إعادة النظر في كلّ معنى أو قصد يتوقع بلوغه، فإذا هو يجد نفسه مسكوناً بقلق البحث عن معنى أو قصد آخرين، شأن النصّ الصوفي الذي يراوغ قارئه في إمساكه بالمعنى، ثم ما يلبث هذا المعنى أن يسيل من بين أصابعه، فتدفعه ظلال النصّ إلى الغوص أكثر على الأعماق منه، إلى أن يجد نفسه أمام مجرّة من المعاني، وفي حال عروج مستمر نحو ما اصطلح جورج سانتيانا عليه باللذة الجمالية التي عدّها سانتيانا نفسه جوهر إدراك الجمال.
تنهض لوحة أكسم طلاع على ثلاثة عناصر مركزية، الكلمة واللون والتشكيل، وترتبط هذه العناصر فيما بينها بعلاقات لا يمكن لأحد سوى أكسم نفسه عمارتها وهندستها على نحو دالّ عليه وحده، وعلى هوية تشكيلية خاصة به، وهو ما يطمح أيّ مبدع حقيقي إليه، فيكون مفرداً بنفسه لا صوتاً ضمن جوقة من الأصوات التي يوحد بينها المؤتلف والمتشابه والمستقرّ. ومن أبرز ما يميز العنصر الأول، الكلمة، توزعه بين ثلاثة عناصر أصغر، الحرف مفرداً ومتعالقاً مع حرف غيره، فالكلمة المفردة البازغة من رحم أخرى والمعاندة بآن لحضورها بوصفها كينونة لفظية مستقلة بذاتها، فالعبارة التي توهم بمرجعية صوفية بينما هي مرجعية بنفسها، وضمن وحدات جمالية تتجاور فيما بينها بإيقاع شديد الرهافة، وليس اللون، بتعبيراته الحارة غالباً، هو ما يصوغه وحده، بل، أيضاً، ذلك الخلْق الباهر لصيغ لونية باذخة في استعاراتها من الطبيعة أحياناً، ومن الخبرة الجمالية الفائقة لدى أكسم بالقيم التعبيرية لهذا اللون أو ذاك ممّا لا يحيل على أصل له، بل على مجاز جماليّ، أحياناً ثانية.
أمّا ما يميز الثاني، فليس ما سبقت الإشارة إليه فحسب، بل، بالإضافة إلى ذلك، وعي طلاع الواضح بقيمتين: أنّه ما مِن وحدة تشكيلية مجّانية في اللوحة مهما تناهت في قطيعتها مع ما يجاورها من وحدات، وقرينة ذلك براعة الفنان في بناء درجات لونية تتطلّب عيناً شديدة الحساسية في إدراك حمولاتها الجمالية، ثمّ تعبيره، أي اللون، عن آصرة كثيفة المعاني والدلالات بين طلاع وفضاءات اللون التي تبدو في لوحته وقد انبعثت لتوّها من أوّل الخلق، حيث كان كلّ شيء مطلق الطهر والنقاء. والسمة نفسها تكاد تميز عنصر التشكيل الذي يستثير في المتلقي شغف البحث عمّا وراء كلّ صيغة هندسية، المربّع أو المستطيل أو ما ليس كليهما، ولاسيما احتضانها للعنصر الأول، الكلمة، وتمّرد هذا الأخير عليها، وعلى نحو يعني الرغبة في الانعتاق من أسر المحدود والمغلق، ولاسيما أيضاً تثميرها فضاءات التأويل التي تبدو لوحة أكسم طلاع مترفة بها، ودالّة، بآن، على ما يُصطلح عليه في النقد بكسر أفق التوقّع.
وبعدُ، فللباحث الجماليّ جان برتليمي قوله: لا تكمن قيمة اللوحة التشكيلية في موضوعها، بل في مهارة مبدعها في التعبير عن هذا الموضوع، وهو ما تكتنز لوحة أكسم طلاع به بحقّ.