ثقافةصحيفة البعث

“أكسم طلاع” في قصائده الملونة

 

 

ينتمي الفنان التشكيلي السوري “أكسم طلاع” بقوة إلى مذهبه الرؤيوي الفني الخاص، عمله الفعلي على لوحته يبدأ انفعاليا طبيعيا، تقوده الرغبة أولا بالمساهمة في صناعة الجمال، كرسالة لا تحتمل التأويل بكون ما يفعله هو أولا وقبل كل شيء ضد القبح! يتناوب على قيادة تلك الرغبة الواضحة في باله، هاجسه بالفرادة الفنية، أيضا كرسالة لا تحتمل التأويل، بأن كل فنان هو نتاج نفسه أولا، كيف يفكر بما يفعل، ولما يفعل ما يفعل؟ وكيف يفعل ما يفعل؟ وهذا ما تجيب عنه لوحاته التشكيلية الجدارية، التي حملتها جدران غاليري “كامل” حيث أقام معرضه مؤخرا.

ستلفت انتباه الزائر بل ستخطفه، ألوان نابضة بالحياة وبالدلالات الحسية المتفجرة كمهرجانات لألعاب الضوء، فوق تلك المساحات المترامية من كل جدارية؛ الألوان الدافئة والصارخة هي التي تغلب على لوحات المعرض، والحروف التي يُشكل الخط إيحاءاتها بمنحنياته النافرة حينا والمتوارية حينا آخر، هي غواية “طلاع” الأولى ودهشته البدائية، وتلك الدهشة المتجددة والمتوثبة في دواخله في كل مرة يركن إليها إلى عوالمه، لا تأتي من خيالات مجازية، فهي بنت الحياة، بنت الأيام، بنت الأوقات الصعبة ومسارب الخفة القليلة التي ينجو فيها العقل من الجنون، إنه أيضا فعل حياتي يومي، ليس من باب الدربة فقط، بل من باب البقاء: يقول عن تلك العلاقة التي تجمعه بفنه “بالتأكيد لا يقف الموضوع عند حدود معينة، سواء في الماضي أم في الحاضر، على الفنان أن يمضي حرا إلى ما يصنعه، بالتأكيد الذاكرة والخبرات والتجارب هي حاضرة، لكنها لا تتقصد الوقوف على كل شيء، في البداية أدع لإحساسي الشخصي أن يبادر في العمل، مندفعا برغبة الفن ذاته، بما يحققه من حالة سلام داخلي لصاحبه القلق بطبيعة الحال، فالإبداع لا يستكين للركون، والقلق من سماته وطبائعه، وما يفعله الفنان، هو خطوة في الهواء، لكنها ليست مجانية، فعلى من يتلقف تلك المجازفة الحسية التي يقوم بها الفنان، أن يكون هو من يختار الأرض التي سيسير عليها بين ما يطالعه في العمل الفني”، يتابع أكسم حديثه عن طبيعة الاشتباك بين منتجه الفني والواقع، بعد رده السلام لضمة من الصبايا اللواتي يدرسن الفن التشكيلي في معهد “أدهم إسماعيل” واللواتي قمن بزيارة المعرض ليحققن تجربة واقعية في الوقوف على تجربة فنية مختلفة، وذلك بحضور صاحبها ومناقشته فنيا فيها: “الاشتباك مع الواقع ليس خيارا على الفنان، خصوصا إن كان هذا الواقع هو أغرب من الخيال في بعض مناحيه، لذا من الطبيعي أن تغدو الحياة اليومية للفنان بقصد أو بدونه، منفعلة مع ذاكرته وتجاربه، لكنني أؤكد على ضرورة أن يذهب الفنان حراً إلى ما يريده، فنه سُيخبر عن حاله وعن ماذا يريد أن يقول، وحقيقة لست أحب الشرح عن مقاصدي في هذه اللوحة أو في تلك، أعول في ذلك على التلقائية التي سيتلقى بها المتلقي ما قدمت، وعن التفاعلية التشاركية التي يجب أن تنشأ بين الفنون ومتلقيها عموما، بحيث يكون المعنى هو ما تقترحه تلك التلقائية، وأنا اثق في هذه العلاقة، فهي الأقدر كما اثبتت عبر التاريخ، على تحقيق بعض ما تسمو إليه الفنون”.
الصبايا طالبات “أدهم إسماعيل” راحت الدهشة تعلو وجوههن وتتغير ملامحهن مع انتقالهن من جدارية لأخرى، منهن “أنسام صالحة” التي كانت امارات الرضا تتقدمها برفقة ابتسامة رشيقة تحكي عن رأيها في الأعمال الفنية: “المعرض ملفت بألوانه أولا، بذلك التناقض المدهش التي يمنحها التباين بين الداكن والمشرق جدا منها، أيضا هناك تلك الأبعاد التي تمنحها الحروب بخطوطها المختلفة، إنها تحقق مع الألوان والظلال عُمقا غنيا في اللوحة، رغم مساحتها الكبيرة نسبيا، هناك لوحات تشي بأن الواحدة منها هي في الحقيقة عدة لوحات مجتمعة في إطار واحد، هناك ما يشد الناظر دون أن يكون قادرا على تحديد طبيعته بدقة، لكنها مجموعة من العناصر الفنية التي تخلق بتفاعلها ما يمكن تسميته بفوضى الحواس، بحيث يمكنك أن تسمع موسيقا هذا اللون أو إيقاع ذلك الحرف”، وعن الحالة التي تولدها اللوحات التي تجمع بين الحرف واللون، قالت أنسام: “أنا من الأشخاص الذين يحبون الخط العربي جدا ومن الغيورين عليه، أحيانا وفي الأعمال الفنية المشابهة في التقنية، أرى الخط نافرا بطريقة فجة، وهذا يمنع تحقيق وحدة الشعور الانفعالي الدهشوي، لأنه يصادر المتلقي، لكن الانسجام الخلاق، هو السمة العامة للوحات الفنان أكسم طلاع، وهو من أجمل ما يميز هذا المعرض له”.
أيضا السيدة “رجاء فطوم” وهي من زائرات المعرض، كان التأثر واضحا عليها وهي تحاول أن تلخص كل جدارية بجملة شعرية، قالت: “دراستي بعيدة عن الفنون عموما، فأنا خريجة تجارة واقتصاد، لكن الفعل الأول الذي قمت به بشكل عفوي عندما دخلت إلى المعرض ورحت أحدق بلوحاته، هو أنني وضعت يدي على قلبي، فما رأيته جميل جدا، شعرت وكأن الألوان تسيل لتشكل الحروف”، “طالما الفن بخير نحن بخير، فنحن في هذه المرحلة بحاجة للفن أن يأخذ بيدنا، وما هو خاص وبديع في أعمال الفنان طلاع هو شعور من يراها بأنه أمام قصائد ملونة”. الشعور بالفرداة وبالاختلاف، بكمية الجهد المبذول لإنتاج هذه الجرعة الجمالية العالية، كان هو السائد بين رواد المعرض، فالفن يجب أن يحقق المتعة والدهشة ويحرك الأسئلة والهواجس، الفن يقض المضاجع ويدفع للحلم، وإن لم يرمِ حجرا في البرك الراكدة فلا يعول عليه، وهذا ما يدركه الفنان “أكسم طلاع” جيدا، وهذا ما تفعله لوحاته.

تمّام علي بركات