ثقافةصحيفة البعث

“عزلة الحلزون” عندما يحاكم الروائي المؤرخ ويعرّي زيف الواقع

تابع الروائي خليل صويلح مهمته السردية في روايته “عزلة الحلزون” يوغل من خلالها في أعماق اللغة والتاريخ، وينحت عنهما طبقات الزمن، وصولاً إلى وشاح الحقيقة السفلي نازعاً القناع عن حفنة الأكاذيب التي لفّقها التاريخ الشفوي، وقد أثارت الرواية الكثير من الأسئلة واعتبرت من أهم الروايات التي أنتجت خلال الأزمة السورية. وقد أقام فرع دمشق لاتحاد الكتاب العرب جلسة نقاش أدبي حول رواية “عزلة الحلزون” لـ خليل صويلح بعنوان “عندما يحاكم الروائي المؤرخ ويعري زيف الواقع”.

إشكالية

تبدو “عزلة الحلزون” واحدة من الروايات القليلة التي كتبت وتكتب عن الحرب الدائرة في سورية، وعنها قال نذير جعفر: لا تكتفِ برصد مظاهر الدمار العمراني، وضحايا القصف والتفجيرات والقذائف متعددة الجهات وما جرته من ويلات، إنما توغل في العمق متلمسة الدوافع الخفية لنزعة القتل والتوحش والثأر الكامنة في سلالة طويلة من الأسلاف الذين أورثوها لأحفادهم. ويطرح الراوي إشكالية اللغة بوصفها تضليلاً وفخراً لتسويق منظومة الإطراء والتفخيم والتعظيم لمن لا يستحقها وإقصاء من يستحقها سواء أكان من ذوي الشأن أو من المفكرين والفلاسفة، وفي تفسير الراوي لما يحدث لا تغادر الحرب وفق رؤيته سقفها المحلي وتأويلها أحادي الجانب بوصفها حرب هويات وعقائد وطوائف ناجمة عن زواج عرفي بين الخوذة والعمامة، وهو بذلك يغيب العامل الخارجي الأساس في إشعال هذه الحرب.

الحياة الحلزونية

تتساءل مروة ملحم في بداية قراءة “عزلة الحلزون” عن سبب هروب الكاتب إلى الرحلة البدوية المربكة والشائكة، وقالت: اضطرتني الرواية لإعادة القراءة لتذكر الأسماء والأجداد واستحضار البيئة البعيدة جداً عن مخيلتي والغريبة عني، لكنني كلما قرأت أكثر عن آل الهلالي وعن كتاب الأسماء الذي ارتبطت حياتهم به كنت أصدق أكثر هذه القدرية التي لحقت بهم مثل اللعنة التي مددت أمامي سؤال الهوية الذي لا ينفك يظهر كلما فتحنا باباً من يوميات مابعد الحرب هل كان أجدادنا أبطالاً أم قطاع طرق؟ وهل ورثنا قلوب الطيور أم قلوب الذئاب؟.

لا أعتقد أن هناك وصفاً يطابق المثقف السوري اليوم أكثر من وصف الحلزون، في الرواية يعيش البطل حياته الحلزونية الدبقة بين الكتب المهترئة محاولاً مصادقة التاريخ لوضعه في وجه الحاضر فيستطيعا تبيان تضادهما وفكفكة عقد الواحد الآخر، هذا التوهان الذي يرافق السوري اليوم هو خنجر لم يقرروا بعد إزالته من أحشائهم لأنهم مخدرون بنشوة الاستذكار.

شخصيات الرواية

لا يذهب خليل صويلح في روايته الجديدة “عزلة الحلزون” إلى نبش قبور الأسلاف، وبدوره قال الناقد سامر إسماعيل: بالقدر الذي يبحث في هويات مشوّشة تتخلّلها مستويات عدة من السرد، يختص بشخصية “ميخائيل جبران” الذي يعمل مدققاً لغوياً في دار نشر وموقع إلكتروني، فتحيلنا المخطوطات التي يقوم بتنقيحها على مستوى آخر يختصّ بمقص الرقابة الذي يطلب من “جبران” حذف مقاطع منها أو القيام بإعدادها كما تجري العادة لتتوافق مع ذهنية الرقيب وسياسته.

تحضر شخصيات عديدة في الرواية بأسماء ألف حيوانٍ وطير، فمع كل مولود جديد من “السلالة المباركة” يعُطي الجد اسماً من كتاب “الدميري” لأحفاده، فالجدة غزالة والجد الحصيني، والجد الذئب الهلالي، والجد الرابع ابن آوى، والكلاب كانت قديماً تنطق بلسان بشر! وهكذا دواليك من طبائع الحيوان التي تقع على الإنسان فور انتحاله أسماءها كوشمٍ لا يزول. يطوّح بنا عبر ثنائيات تجعل القارئ يتنقل قفزاً بين أجيال مترامية زمنياً، لكنها تحضر في النص وفق متتاليات رمزيةٍ شديدة الثراء، وذلك لما تختزله من تشويهاتٍ للخط السرديّ التقليدي، مزاوجةً بين سرد الكاتب من جهة، وسرد القارئ.

الخروج من القوقعة

بدأت إيمان موصللي مداخلتها باقتباس أول الشخصيات الأنثوية في الرواية وهي عبارة تختصر الكثير وتختزل الأكثر “هنيئاً لك قوقعتك البائسة أيها الحلزون.. آمل أن تكون جملتي سليمة لغوياً”، ميخائيل جبران بطل الرواية المثقف، الحلزون الذي عاش عزلته بين مكتبة متنقلة في رأسه تزدحم بالعناوين والكتب والمؤلفين، هذا المثقف، هل كان في علاقاته مع المرأة يبحث عن الحب الضائع أم عن الهوية الضائعة، هل الحب يعيش أيضاً في عزلة أم هو الهوية المفقودة التي يبحث عنها ميخائيل رغم كل الألم والعزلة والضياع بين الماضي والحاضر والأحداث التي حدثت مع ميخائيل يضيء لنا خليل صويلح عبارة اقتبسها ميخائيل من العلامة محي الدين ابن عربي والتي تجعلنا نتأملها في ذهول وتناقض وإعجاب وكأنه ببضعة كلمات يعلن خروجه من قوقعته “وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر”.

سردية سحرية

وقال عماد نداف: العزلة عند خليل صويلح هي من نوع آخر تجعلك تبحث عنها برغبة وحماسة ربما لأنك تعيشها وربما لكي لاتقع في دلالات العبارة التي يمكن أن تؤول إلى معاني لم يكن يفكر فيها الكاتب. كان نص صويلح آسراً وهو من النصوص المجنونة التي تحاكي زمن المرارة الذي نعيشه، تم طبخه بنوعين من الكتابة الواقعية واحد تفكك الخيط من كبكوبة الصوف التي لعبت بها قطة الحرب والثانية واقعية سحرية لابد من الوقوف عندها والاعتراف بخصوصيتها المبهرة.

شجرة العائلة

الرواية لاتجد الحياة إليها سبيلاً –حسب رأي الأديبة سمر تغلبي- فهي سرد لحركة الحياة اليومية للراوي لاغريب فيها ولامثير في عالمه الخارجي لكن عالمه الداخلي مليء بالتناقضات التي عززها عمله في موقعين مختلفين ليس مكانياً ولا عمرانياً وإنما زمانياً، وينتقل الراوي بينهما كمن يركب آلة الزمن ليسافر عبر الأزمنة المختلفة مستحضراً شخصيات الكتب التاريخية.

“عزلة الحلزون” عنوان مثير لرواية إشكالية أخذ كاتبها على عاتقه المغايرة في الأسلوب والمضمون والغاية واللغة، القضية الملفتة هي شجرة العائلة التي تمثل التاريخ بكل مافيه من قصص معلنة وأخرى مسربة عن طريق الجدات، فالسارد هنا ينتصر لرواية الجدات المسربة فهي الأكثر إثارة ويراها أكثر صدقاً لأنها الأكثر عفوية. الرواية متميزة بلغتها ومضمونها وجرأتها على كسر التابوهات المختلفة، وبخلق الشخصيات التي تنتمي إلى شجرة النسب.

جُمان بركات