الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

الســــماوات البعيـــــدة

 

سلوى عباس

لسنوات تسع كانت أمهات –رياحيننا الطاهرة- هن سيدات الحضور في عيد الأم وهن يجسدن بصبرهن على الفقد أمثولة للعطاء الذي ينسجنه راية من إرادة وصمود نعتز بها جميعاً.. تسع سنوات وأمهات الشهداء يختصرن أبجدية اللغات ويزينّ أرواحنا بالبهاء.

هذا العام.. وفي هذا اليوم الذي يحتفل فيه العالم بعيد الأم أستميح أرواحكن العذر –سيدات الضياء- أن أنفرد مع أمي وحنيني إليها الذي ينمو ويتكاثف في حنايا قلبي، خليطاً من مشاعر متداخلة ومعقدة، تبدو رمادية غائمة كيوم شتوي جاف ضاعت فيه الظلال، يقتلني فيه البعد، وتحيرني روحي المبعثرة في كل الاتجاهات، فأي عيد هذا الذي ينتابني بلا فرح ولا لقيا..؟ أي عيد هذا، وشوقي إليها يزداد كل يوم وكل لحظة؟، فخيالي لم يعد يكفيني، ولا ما اختزنت من ذكريات.. لسنوات مديدة يطل العيد دون أن أرتب لحظاتي كي ألتقيها، وأنعم بدفء يديها الذي يضمني في رقتهما ويعيد لي سماواتي الهاربة..

في المدرسة علّمونا أن الأم مدرسة وأمي كانت أبجديتي الأولى في الحياة، وفجيعتي الأولى في الموت، فمنذ رحيلها والوقت يحاصرني، أختنق برجع الوجد وذكريات أرهقها الحنين، ومنذ غيابها والعيد يأتي معتمراً قبعة الأسى دون أنشودة الصباح ولا زغرودة الحب، دون بريق اللهفة أو قداسة الاحتفال، وصدى صوتها يتردد في أذني عندما أطرق الباب وهي تخبر أخوتي بقدومي.. مرة أخرى يأتي العيد وهي بعيدة عنا، يؤرقني اشتياقي أن أحكي لها بوحي وتداعياتي.

اعذريني أمي على صرختي الأولى التي ندت عنها شفتاي عندما لامس ضوء الشمس جفوني في لحظاتي الأولى، وأنا التي جاهدت كثيراً للبقاء في وهدتك الدافئة تغسل عني البرد والوحشة، لكن لم يكن من مهرب من الخروج للحياة، ربما صرختي كانت ابتهاجاً برؤية ملامحك، واستنشاق عبيرك الذي تعشق مسامي، ومازال يشاركني أحلامي، حيث أورقت في قلبي ربوة من ياسمين عبقت الدنيا وجمّلتها، وحتى الآن لا أنسى صوت أنفاسك التي أنضجت أزاهيري، وابتسامتك الأولى التي أشرقت في روحي أنت التي في حضنها رميت قلبي تهدهده كطفل بكى طويلاً قبل أن يهده الدمع ويغفو.

وكأني بعثت من وجيف قلبك الكبير، قفزت منه كنبضة شاردة، وسبحت في فضائك كروح، كلما شغلت نفسي عن تذكرك أعادني حنيني إلى الولوج في طيفك المحبب وأنا أستحضر أنينك المرتعش من خفقات الهواء، وألم من موجات الأثير شهقة خافتة ندت بها شفتاك في لحظة وداع موجعة أطبقت الكون على روحي ولم تجد صرختي في استعادة الألق لقلبك الذي أطفأ سراجه وترك برد المساءات يذر رماده الأصفر على روابي الروح.

اليوم يعود العيد مرة أخرى وأنت بعيدة، أفتح نافذة القلب المفضية إليك وأرسل في سمائك اللازوردية حمامة من شوق وحنين أحمّلها وجدياتي وأطلقها في جناح من صفاء الروح وسجى اللوعة تبتعد في فضائك الوسيع ولا يعود منها إلا صدى من غياب يؤجج لهائب الشوق، ويذري الكلام على بلاط البرد فأميل إلى شظاياه ألمها في جعبة تتسع انكسارات الأبناء وفجائعهم حتى يأتي يوم يجمعني بك.

أمي.. ينحني العيدُ أمام جلال وجهك وفي هذا اليوم أضيء شمعة حب لروحك وأطلب لك الرحمة في سماواتك البعيدة، وأنتن يا أمهات شهدائنا الخالدين في وجداننا، نناشدكن ألا توقفن إكسيركن الرائع، ولا تقللن من جرعاتكن لمن يحتاجها، ولا تبعدنّ غمامتكن الجليلة عن أرواحنا.. فأنتن ملحمة العطاء وينبوع الحنان والحب الصادق.