رأيصحيفة البعث

ما بعد الوباء.. والإرهاب الصحي

 

ذات يوم قال الجنرال ديغول: “إن الجغرافيا هي العنصر الدائم في صنع التاريخ”، وهي مقولة أثبتت الوقائع صحتها، لكنها، وكما تضمر مقولة الجنرال، ليست العنصر الوحيد، فقد منحت التطورات الدائمة والمتلاحقة لعناصر أخرى قوة قد توازي، أو تفوق، الجغرافيا في عملها هذا، فمن يصنع التاريخ اليوم، أو للدقة، يشارك بنصيب كبير في صناعته، ويحوّله – قد يحوّل معه الجغرافيا أيضاً..!! – “من حال إلى حال” على قول “ابن خلدون”، هو فيروس مجهري يدعى “كورونا”.
وإذا كان أحد ما لا يعرف على وجه الدقة المدة التي سنعيشها في عصر كورونا، فإن الجميع يعلمون أن عالم ما بعده قادم لا محالة، وأن الفيروس، وبغض النظر عن كونه طبيعياً أو مخبرياً – وفي ذلك سال، وسيسيل، حبر غزير – “قد يعيد صياغة النظام العالمي”، بعد أن بدأ بلعب دور “القشة التي قصمت ظهر البعير”، عبر مساهمته الواضحة في عملية انحلاله وتحوّله إلى نظام آخر، وهي مساهمة يجدر التذكير أنها لا تكفي وحدها، لأن التحوّل التاريخي هو نتيجة تراكمات عدة وصولاً إلى لحظة الذروة. وفي هذا السياق، فإن ظهور أشخاص من أمثال ترامب وماكرون وجونسون، وأتباعهم العرب، هو تعبير جلي عن الوصول إلى هذه اللحظة، مع ملاحظة أنهم، كـ”القشة” آنفة الذكر، يساهمون بتكوينهم الشخصي والنفسي وسياساتهم الجامحة في تعقّدها، وفق علاقة جدلية بسيطة ومعروفة.
لكن الأمور ليست بهذه السهولة، ومخاض العالم الجديد سيكون صعباً ومعقّداً في ظل قوى عسكرية وسياسية وثقافية عملت لخدمة “الرأسمالية النيوليبرالية المتوحِّشة التي استباحت الكرة الأرضية منذ ما يزيد عن ثلاثين عاماً”، وهي لا ترى من “الفيروس” اليوم سوى ما يقدّمه لها من فرص داخلية أو خارجية في سياق هذه الاستباحة، ففي الداخل استخدمته كفزاعة، وفرصة، لتغطية الأزمات الناجمة عن الرأسمالية المتوحّشة في طورها المالي الصرف، وما “نظرية القطيع” التي طرحتها بريطانيا علناً، ومعها بقية الدول الأوروبية ضمناً، لإعادة ترتيب المجتمع عبر “الداروينية الاجتماعية”، إلا إجراء عنصري مقزز ضد الفقراء وكبار السن باعتبارهم الضحايا الأوائل للسياسات الاقتصادية النيوليبرالية التي لا تُعنى إلا بالربح والرابحين.
وأمام فجور داخلي كهذا، يصبح “طبيعياً” أن يرفع ترامب راية الإرهاب الصحي في الخارج من جديد. وقصة واشنطن مع الإرهاب الصحي طويلة وموثّقة، وهذا ما يبدو واضحاً، سواء من محاولته احتكار اللقاحات الطبية المتوقّعة للفيروس حتى من الحلفاء المفترضين للإبقاء “على الريادة الطبية والدوائية في الأيدي الأمريكية”، أو من إصراره الفاجر على إبقاء العقوبات الاقتصادية على دول محددة، وابتزازها بها لتحقيق أهداف سياسية معروفة.
بيد أن الواقع يتغيّر، فبعد أن سحبت الصين بساط الريادة الاقتصادي والتكنولوجي من أمريكا خصوصاً، ومن الغرب عموماً، تسحب اليوم البساط صحياً، وبعد أن واجهت الفيروس باقتدار شهد له العالم كله، عرضت، وكما يليق بدولة عظمى، المساعدة لمواجهة الوباء على العالم، ومنه دول أوروبا التي خذلتها واشنطن، كما خذلها اكتشافها المتأخر وهمَ انتمائها إلى اتحاد أوروبي مزعوم لم يحتج إلا إلى فيروس مجهري كي يفصح عن هشاشة بنيانه، وأكثر من ذلك، عن استيطان الأمراض العنصرية القديمة فيه التي اعتقدت أوروبا أنها تجاوزتها، لتتحوّل بذلك إلى “العالم الثالث الجديد” بحسب الفيلسوف الفرنسي ميشال أونفراي.
خلاصة القول: يمكن لنا الحديث بكل ثقة عن عالم ما بعد “كورونا” الذي لا يشبه ما اعتدناه وألفناه سابقاً، ويبدو أن الجميع سيطلبون فيه العلم (العلاج والحل) من الصين.. وهذا خط أمريكي أحمر. وإذا كانت بريطانيا، حين لم تكن الشمس تغيب عن “أملاكها”، قد شنت على الصين، لأهداف اقتصادية وسياسية، حرباً ضروساً دعيت بـ “حرب الأفيون” – شاركتها فرنسا في جولتها الثانية – فمن الممكن أن تكون “حرب الكورونا” هي حرب واشنطن القادمة على الصين، وعلى العالم بأجمعه، وتلك هي الحرب العالمية الثالثة التي ستضع أسس العالم الجديد.
أحمد حسن