ثقافةصحيفة البعث

أمي- الشام

 

 

لأمرٍ ما، أمي تحب الشام. تقول عنها: شامة الدنيا وعلامتها. كانت تقول: رائحة الغوطة تلاقيك حتى (المطلَّة)، تلك التلة التي يبدو قاسيون منها بعد رحلة شاقة بين (سُكَّرةِ براق) والسهل اللحقي الممتد حتى الزبيدية فتل عامر وصولاً إلى خربة الشَيَّاب التي تقع المطلة على بعد فرسخ منها. لم تكن الغوطة قد تعرضت لغزو غابات الإسمنت بعد حين كانت تطلق زهورها رائعة الانتشار والانتشاء بروعة شمس نوَّار كل عام. تلك الزهور المبتدعة ما بين سخونة الصحراء وبرد جبال القلمون، تشكل بواكير الزهر والثمر في العالم.

حبُّ أمي لدمشق متوارثٌ –فيما يبدو- عن أبيها الشيخ أبي إسماعيل الذي كان يتاجر بين الشام والجبل، ذات مرَّةٍ كانت تجارته مع بدوي بالجمال.

لحم الجمل سنة نبوية، وكانت الجمال عندما تكبر بدلاً من أن تكافأ على جهدها طوال عمرها، تعقر الناقة ليتناول الناس لحمها. مع التنعم بالمدنية نعمة الأظفار ومال الناس إلى لحم (القعود). لذلك كانت تلك التجرة بائرة بسبب كبر سن النوق… عند العودة لعبت برأس البدوي حمى الهجيني فقال محفزاً جدا على المنافرة في نظمها:

عيباً على المثلي تَجَرْ بهروش

واخُذُ العجايز… على الكوبة

فرد جدي قائلاً:

يا زَيْن، زِيْن دقَّة المريوش

خطَّ القلم والحِبِر كُوُبَا…

لم تزر أمي دمشق إلا وكانت زيارة النبي يحيى أولى مهماتها. لا أدري ما سرُّ العلاقة بينها وبين ذلك المكان القدسي المهيب الذي يضم رأس النبي يحيى (يوحنا المعمدان الذي اجتزوا رأسه إرضاء لصالومي) ذلك القديس الذي عمد السيِّد المسيح -عليه السلام- في نهر الأردن.

كان يبشر بخلاص الإنسان من ظلم الأحبار المتضامنين والحاكم الروماني، فرقصت هيروديا على دم المعمدان، وبدأت رحلة الآلام التي لم تنته بدرب الجلجلة وخشبة المسيح، بل واصل رأس يوحنا طريق الوجع من طبريا إلى دمشق ليوضع في معبد حدد أكبر معابد سورية الكبرى، ومنذ ذلك اليوم بدأت ثنائية الحرب بين الخير والشر، فمن انحاز إلى المعمدان انحاز ضد قتلة الأنبياء عبر التاريخ حتى الآن، ومن سلك درب المال اشترى أمتارا على جانبي طريق الجلجلة أو “السوق الطويل” ليقتنص أموال المؤمنين.

تُذكِّرني أمي أن الجامع الأموي يُجمع على قدسيته كلُّ السوريين على اختلاف طوائفهم المسيحية والإسلامية. أمي تعرف مدافن الأنبياء والقديسين في دمشق وقاسيون، كما تعرف مدافن الصحابة رضوان الله عليهم.

كان أول ما يطالعها وهي آتية من الجبل مقام (أبو يزيد البسطامي) ثم الطاهرة زينب بنت علي وفاطمة وشقيقة الحسين التي اقتيدت وشقيقاتها من الطف إلى الغوطة برفقة رأس الحسين المجزوزة أيضاً ليس إرضاء لصالومي، وإنما لحزازات أبناء العم الطامعين بالسلطة. أمي تعرف الأماكن المقدسة بالحدس وليس فقط في كتب التاريخ والجغرافيا: هنا مغارة الدم حيث سفك قابيل دم أخيه في أول جريمة بشرية، ولن تكون الأخيرة. هنا في مغارة الجوع مكث أنبياء…

هنا مرت قدم النبي صلى الله عليه وسلم في (القدم) إذ منعه التجار من الوصول إلى جلق. هناك في الربوة التجأت مريم العذراء المقدسة مع ولدها يسوع إلى مغارة لا تطالها السباع. هناك قبر صهيب… عائشة… عبد الله. تتشابه الأسماء فتنطلق الكنى: هنا مساكب البقدونس في كفرسوسة اختلطت بدماء “مولاي النفس”، في ظاهر “دير المران” جلس الدعاة يبحثون أمور الناس… قبة السيار لعالم النجوم تحركاتها ودلائلها…

كثير من الأحاديث والأقاصيص ترتبط بتربة “شام شريف” لدرجة أن كل عطفة هنا تأوهات من الحب ومواقف خالدة، هناك شدت خيول فتح أفريقيا حتى الأندلس في أرض مهملة الآن كانت تشكل أرض معرض دمشق الدولي القديم. كثير من الذكريات المزروعة في الذاكرة التي تشي بتاريخ حميم. التي خلدها قول الشاعر:

لَيسَت قِباباً مـــــــــــا رَأَيت وَإِنَّما

عَزمٌ تَمَرَّدَ فَاِســــــــــــتَطالَ قِبابا

فَاِلثُم بِروحِكَ أَرضَها تَلثُم عُصوراً

لِلعُلى سَـــــــــكَنَت حَصى وَتُرابا

رأسان مقدسان كانت تجلس إليهما طويلاً في الجامع الأموي رأس النبي يحيى، ورأس الحسين بن علي الذي خرج من المدينة ذات يوم إلى العراق. التقى في ظاهر المدينة بالشاعر الفرزدق قادماً من العراق إلى المدينة المنورة، فسأله: ما وراءك يا فرزدق؟

قال: قلوب الناس معك وسيوفهم عليك.

قال الفرزدق بعد مقتلة أهل البيت في كربلاء: انظروا، فإن انتصفت العرب لمقتل سيدها وابن سيدها فسيدوم عزها إلى يوم الدين، وإن لا، فلا.

كانت أمي تجلس لساعات في الجامع الأموي، تتلو أذكارها، تقرأ في كتابها الصغير الفخم المذهب، ثمَّ تعيده إلى عبِّها. تقول: اتركني هنا واذهب لعملك. ساعات وأعود. أجدها وكأنها دخلت للتو. لا يبدو الملل على محياها. بل يشرق وجهها بنور رباني غامر. كم داخلني شعور بأن أمي تنتمي إلى المكان، وتعيش بذكريات استلفتها من الكتب، لكنها كانت تسخر من كلامي قائلة: يوماً ما ستدرك قدسية الأمكنة. أجادلها بأن زيارة القبور أو الحجارة تشبه زيارة العرب قبل الإسلام إلى تماثيل الكعبة. تقول وبسمة تفتر عن شفتيها: زيارة الأمكنة ليس تقديسا للحجارة، بل لنتمثل أعمال البررة الطاهرة ومواقفهم وأعمالهم…

كم كان ينقصنا فهم جوهر الأشياء لا جواهرها، وكنه الأمور لا اكتناهها. أمي معلمتي الأولى التي ألقمتني التبصر في الأشياء قبل الحكم عليها، كم من الدروس فاتتني برحيلك. أتذكر أحاديث أمي عن (دمشق-الشام) فأجد أن كل شبر فيها مقدس. بغياب أمي، أستلف تلك الحكايا من التاريخ، ومن تراب الشام، لذلك صارت الشام أمي الثانية، بل أمنا الكبرى.

داود أبو شقرة