دراساتصحيفة البعث

أردوغان يتاجر بالقضية الفلسطينة

د. معن منيف سليمان

يحاول رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان أن يظهر نفسه بثوب المدافع عن القضية الفلسطينية، وحامي حمى القدس وحقوق الشعب الفلسطيني، ويعلن بشعاراته الزائفة والمضلّلة العداء الشديد لـ “إسرائيل” ويهدّد بين الحين والآخر بقطع العلاقات معها، ولكنه في الخفاء يمدّ اليد إليها، ويقيم معها مختلف العلاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية.

والعلاقات التركية – الإسرائيلية الرسمية التي انطلقت منذ آذار عام 1949، لم تتأثّر بتولي حكومة حزب العدالة والتنمية الإخواني مقاليد الحكم في تركيا، عام 2002، ليعمل الحزب على تعزيز الاتفاقيات السابقة مع “إسرائيل”، غير آبهٍ بتناقض خطابه الذي يظهر حماسه للقضية الفلسطينية، ويبطن تطبيعا كاملا مع الكيان الصهيوني. وأصبحت تركيا أوّل دولة ذات أغلبية إسلامية تعترف بـ “إسرائيل” كوطن قومي لليهود على حساب الفلسطينيين، إلا أن النظام التركي لا يترك مناسبة إلا ويتاجر بالقضية الفلسطينية بالكلمات الرنّانة في محاولة خداع دأب عليها، متّخذا من إثارة الجلبة والانفعال الزائد عن الحدّ، سلوكا تعويضيا لدرء تهمة التواطؤ على القضية الفلسطينية وإظهار عكسها.

ويواصل نظام أردوغان اللعب على مشاعر المسلمين حول العالم من خلال أقوال باتت مكشوفة للرأي العام، خاصّة وأنها لا تقترن بأفعال على الأرض، حين انتقد سلوك “إسرائيل” خلال الحرب على غزّة عام 2009، بهدف كسب شعبية زائفة بين الجماهير التركية والعربية والإسلامية دون المساس بالتحالف القوي مع الكيان الصهيوني. ففي جميع تصرفاته التي يعمل جاهدا من خلالها على الظهور بمظهر المتبنّي الأوحد لقضية الشعب الفلسطيني، مزايدا على الآخرين، يتخذ أردوغان أساليب تهييجية وانفعالية، لعلّها تغطي على حقيقة كونه الرئيس الوحيد الذي شهد عهده انتعاشا في العلاقات بين أنقرة وتل أبيب.

البرلمان التركي، وهو الآخر الذي يقوده بالأغلبية حزب العدالة والتنمية الإخواني، رفض قطع العلاقات التجارية مع “إسرائيل” عقب مقتل نحو ستين متظاهرا على الأقل في قطاع غزة خلال مسيرات العودة الكبرى، كما أنه رفض مقترحا حول إلغاء الاتفاقيات الثنائية بين البلدين.

وعلى الرغم من التصريحات العنترية التي يطلقها أردوغان عن “إسرائيل” التي يدّعي فيها أنه يدافع عن القضية الفلسطينية، إلا أن الواضح للجميع أنه يقدّم الكثير من الخدمات للكيان الصهيوني، ما يسمح له بتوسيع نفوذه في منطقة الشرق الأوسط ويساعده على فرض انتهاكات بحق الشعب الفلسطيني. وبدلا من إرسال قوات تركية تهدّد أمن “إسرائيل” قرّر إرسالها إلى سورية وليبيا لمحاربة الجيش الوطني في البلدين.

واليوم، يستمرّ أردوغان في المسرحيات التي يبدو فيها كداعم للقضية الفلسطينية، بالتناغم مع الضربات الإسرائيلية المستمرّة على سورية. هو يضرب في الشمال، وهم يضربون في الجنوب وفي القلب، ضمن جوقة موحَّدة النتائج ومختلفة الأهداف، لتخدم كل أطراف التحالف الإجرامي.

كما أن خطابات أردوغان الشعبوية بخصوص القضية الفلسطينية لا تختلف كثيرا – بحسب محلّلين – عن هتافات جماعة الإخوان الإرهابية التي يرعاها أردوغان، ويسعى من خلالها لإقامة خلافة شبيهة بحقبة الاحتلال العثماني للوطن العربي؛ وفي هذا السياق وصفه وزير الاستخبارات والمواصلات الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، في حديثه لصحيفة “معاريف” الصهيونية بـ “فريمني” أي الصديق العدو، من خلال طموحه بالسيطرة على المنطقة العربية على أجنحة تنظيمات الإسلام السياسي المنبوذة.

فالوزير الإسرائيلي يشير إلى أنهم لا يأبهون لعنتريات أردوغان ضدّهم خلال وسائل الإعلام، طالما أنها لا تمنعه من جعل حجم التجارة عبر حيفا نحو 25 بالمئة من تجارة تركيا مع دول الخليج العربي. ويشير إلى أن “إسرائيل” تتعايش مع أردوغان، على الرغم من مسرحياته، وهي تدرك أنه يعدّ نفسه قائد “الإخوان المسلمين” في العالم ويحاول أن يقود العالم الإسلامي. وعلى الرغم من التصريحات التي يصدرها مسؤولون أتراك، على رأسهم أردوغان ضدّ “إسرائيل”، إلا أن السفارة التركية في تل أبيب لا تتوقف عن تنظيم الفعاليات التركية في “إسرائيل”.

وفي أعقاب صدور قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، والاعتراف بأنها عاصمة لـ “إسرائيل”، كان الرئيس التركي أردوغان من أوائل الرؤساء الذين هاجموا قرار الرئيس الأمريكي، حيث مارس هوايته المفضّلة في المراوغة بالخطب النارية والعبارات الرنانة، وفي الوقت نفسه رفض أن ينضمّ للدعوة التي قدّمتها كل من السويد ومصر وفرنسا وبوليفيا وإيطاليا والسنغال وبريطانيا والأوروغواي إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لعقد جلسة طارئة لبحث تداعيات قرار الرئيس الأمريكي.

 

العلاقات التجارية

بلغة الأرقام، شهدت العلاقات التجارية بين تركيا و”إسرائيل” نموّا ملحوظا في السنوات الأخيرة التي تلت حادث السفينة التركية مرمرة، حيث احتلت تركيا المرتبة السادسة على مستوى العالم في قائمة الدول المصدّرة لـ “إسرائيل”، بمبلغ وصل إلى أربعة مليارات دولار سنويا وقتذاك، واعتمدت تركيا على استيراد المواد الخام من “إسرائيل”، والمواد الكيميائية والمعادن والآلات، كما استوردت “إسرائيل” من تركيا بشكل أساسي، السيارات والحديد والملابس.

وأكد تقرير موسّع أعدّته صحيفة “جمهوريت” التركية وحمل عنوان “الشراكة مع الاحتلال”، أن التبادل التجاري بين تركيا و”إسرائيل” تضاعف في عهد حكومة حزب العدالة والتنمية إلى أربع مرات مقارنة بالحكومات السابقة.

ولم يقتصر تعاون أردوغان مع الاحتلال الإسرائيلي على الاتفاقيات السابقة بل نقل العلاقة إلى المرحلة “الاستراتيجية”، فحتى مسرحية انسحابه من قمة دافوس، في العام 2009، لم تؤثر على الاتفاقيات العسكرية بين الطرفين، وهي التي جعلت من “إسرائيل” المورّد الأول للأسلحة بالنسبة لتركيا.

وقدّمت تركيا من جهتها للطيران الإسرائيلي فرصة التدرّب في صحراء الأناضول الشاسعة في إطار مناورات مشتركة. كما قامت بحريتا البلدين بمناورات مشتركة أسهمت في تدريب وصقل قدرات الطيارين الإسرائيليين ليصوّبوا على رؤوس الفلسطينيين بدقّة عالية.

وبالأرقام الأممية، فإن تركيا لا تعدّ داعما ماليا للفلسطينيين، على الرغم من كل الأموال التي ينفقها النظام التركي على الترويج الإعلامي لخلق فكرة وهمية أنه يدعم القضية الفلسطينية والفلسطينيين أكثر من غيره. ويأتي تقرير صادر عن وكالة “غوث” وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) التابعة لمنظمة الأمم المتحدة ليسقط كل الأقنعة، ويفضح المتاجرين بالفلسطينيين وقضيتهم. ويرصد التقرير أهم المتبرّعين والداعمين للفلسطينيين واللاجئين منهم على مستوى العالم، ومن بين أهم عشرين داعما ومتبرّعا لا يظهر اسم تركيا على الإطلاق.

إن المصلحة العليا لأردوغان وحزبه الإخواني هي المحرك الرئيسي لسياسته الخارجية، وأن البعد البراغماتي في هذه السياسة أوضح من أية محاولة لتغليفه بمنظور معياري ذي بعد أخلاقي، وتعدّ المتاجرة بالقضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني خير مثال على ذلك. لقد أقدم أردوغان على اتخاذ قرارات عدّة في صالح الاحتلال الصهيوني، لتثبيت العلاقة بين أنقرة وتل أبيب، ولهذا فإن ما يبديه من تعاطف مع الفلسطينيين ما هو إلا ذرّ للرماد في العيون، في حين يبرم اتفاقيات مع العدو الإسرائيلي لزيادة التعاون الأمني والعسكري والتطبيع في جميع المجالات.