دراساتصحيفة البعث

كورونا.. وأثر الفراشة

أمجد حامد السعود

على الرغم من مجهرية حجمه إلا أن وقعه على العالم بأسره كان ومايزال هائلا جدا.. لقد شلّ فيروس كورونا الديناميكية الاقتصادية والاجتماعية داخل الدول وفيما بينها، فتحول من فيروس مجهري متناهي الصغر إلى شبح يحصد الأرواح ويدب الذعر في العالم بأسره.

إن ما أحدثه كورونا من إيقاف لدورة الحياة على مستوى دول العالم، لم تستطع حروب ومعارك وكوارث طبيعية أن تحدثه لجهة الامتداد الأفقي للشلل الذي أصاب الحياة الاجتماعية والاقتصادية في المجتمعات بأسرها، وهنا لسنا بصدد تقمص العقل التآمري لجهة المسؤول عن تفشي هذا الوباء، وكورونا لن ينتظرنا حتى نكتشف خيوط المؤامرة من حيث مسبباته وآليات علاجه، فهذا أمر له اختصاصيون وعلماء ما زالوا في إطار البحث الجدّي عنها.

سنتحدث عن مقاربة عقلية استقرائية سياسية اقتصادية اجتماعية قد تنتج عن تبعات انتشار هذا الفيروس، وهنا دعونا نفترض سيناريو تستمر به جائحة كورونا بالانتشار بما يصاحبها من آثار على الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لفترة زمنية أطول مما هو متوقع على المستوى العالمي.. تُرى ما الذي سيحدث؟

إن ما أحدثه انتشار هذا الفيروس على المستوى العالمي لن يمرّ مرور الكرام بالأخص على الدول ذات الاقتصادات المتوسطة والضعيفة، فهذا المكوث القسري المنازل الذي يسود مجتمعات العالم يستدعي وجود كتل مالية ومدخرات للعائلات حتى تلقى كفافها، وبالتالي فإن المال الدائر على مستوى الاقتصادات العالمية كالبنوك والمصارف العالمية قد يُسحب ويتوقف عن الدوران، وتوقفت المعامل والمصانع عن الإنتاج لحاجتها إلى اليد العاملة لتنتج بضائعها، وبالتالي سيقلّ العرض والطلب في الأسواق. وكما هو معلوم في الاقتصاد فأن تراجع أحد ضلعي حركية السوق (العرض – الطلب) سيؤدي إلى حدوث أزمة اقتصادية كبيرة، فما بالك بتراجع الاثنين معا محليا وعالميا..

وبالتالي، فإن عمومية المشهد الاقتصادي هذا على مستوى دول العالم ستؤدي إلى كارثة اقتصادية ليست بالسهلة، وخصوصا أن الاقتصاد على مستوى العالم قد أصبح اقتصادا متداخلا، فأي أزمة في الشرق قد تؤثر سلبيا في الغرب، والعكس صحيح. وبالتالي، قد ينتج عن ذلك انهيار لاقتصاديات دول بأكملها، وبالأخص بعض دول أوروبا التي تقوم أولا وأخيرا على الصناعة، ما سيشكل عبئا كبيرا على دول الاقتصاديات الكبرى في العالم.

أكثر من ذلك، هذا الفيروس قد ينهي في حالته هذه حالة العولمة الاقتصادية، وقد تعود الدول إلى النمط الاقتصادي المنغلق على نفسه لتحقيق الاكتفاء الذاتي فقط، الأمر الذي – إن حدث – لن يُصلِح شيئا، لأن الفيروس قد شلّ الحركية الاقتصادية الداخلية للدول وليس الخارجية فقط من استيراد وتصدير، وهذا بالتأكيد مرتبط بشكل كبير بالسياسة، فأي خلل في الاقتصاد له أثر وتوابع في السياسة لدى الدول، وإذا ما وسّعنا الرؤية أكثر سنرى بأن مفهوم العولمة قد يكون من بين ضحايا هذا الفيروس بانهيار البنى الاقتصادية والرجوع إلى الانكفاء الذاتي، وبالتالي تكوّن نمط عالمي جديد لا نعلم كيف سيكون.

ودائما ما كان الثالوث (سياسة – اقتصاد – اجتماع) متداخلا تداخلا كبيرا، فالبنى الاجتماعية أيضا قد تكون عرضة للتغيير بناء على ما سبق، فالعزل وإيقاف دورة الحياة الاجتماعية داخل الدول وخارجها سيؤدي إلى الحدّ من وتيرة العلاقات الاجتماعية بين الأفراد، وبالتالي إصابة الإنسان بنوع من الاغتراب الاجتماعي، وسينكفئ الإنسان على ذاته، وسيسطر عليه الارتياب والشك والقلق إزاء ما يحدث حوله من شلل لحركة الحياة التي لم تستطع الحروب أن توقفها.

إن هذا الإيقاف القسريّ لحركة الحياة أمرٌ مستغرب على الرغم من عدم أصالة الحدث، فالعالم شهد فيما سبق فيروسات وأمراض كانت احتمالية الوفاة بها أكبر بكثير مما هو عليه الحال مع كورونا، فالعالم الآن في حالة من الاستنفار والفوضى الاقتصادية والاجتماعية وحتى الطبية، حيث يشير المشهد إلى حالة من التسابق في اكتشاف الدواء لهذا الوباء، فكلّ يوم تصدر مئات الأبحاث الطبية في دراسة هذا الفيروس وإيجاد المصل المضاد له، لكنها عديمة الجدوى.

إن الظروف قد تخلق واقعا جديدا ليس بالحسبان، وهذا السيناريو المفترض لهذه الجائحة – والذي لا نتمنى حدوثه – من شأنه أن يفرض تغيرات في شكل النظام العالمي، اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، وعلى دول العالم بأسرها أن تقف جنبا إلى جنب وتستعد لأثر الفراشة المتواتر لهذه الجائحة، والذي “لمسناه طبيّا بحكم آلية انتشاره المتواترة”، وسنلمسه في مختلف مناحي الحياة، فهذا الفيروس صغير بحجمه، لكن تراكم تبعاته سيؤدي إلى إحداث تغييرات جذرية في نمط الحياة الاقتصادي والاجتماعي والسياسي على مستوى العالم بأسره.