ثقافةصحيفة البعث

مقاربة منهجية في القصة القصيرة

القصة القصيرة هي فن احتيال لا يبزّها فيه حتى الشعر؛ إذ إن الشعر هو أبعد عن الواقع وإن اقترب منه، والقصة أقرب إلى الواقع وإن ابتعدت عنه. فكل لحظة في القصة القصيرة هي زمن متوتر، ينصب في زمن متوتر، حتى تتفاعل الأزمنة لتجري تياراً يأخذنا إلى حيث لا نكون.      كما أن القصة القصيرة أطروحة، تجتمع فيها لغة الشعر وحدّة الدراما ونسيج الرواية وأثر الإيقاع، إلى جانب ما فيها من خلاصة التجربة الإنسانية التي لا تتأتى من سِفر الحياة وحسب، بل من سِفر المعرفة كذلك.

وانطلاقاً من هذه الأهمية التي وسمت بها القصة القصيرة في آداب العصر الحديث، سواء من جهة ما تقدمه من أفكار، أو من جهة ما تكثفه من رؤية حياتية، وعصارة معرفية جمة، فقد صدرت حديثاً عن الهيئة العامة السورية للكتاب دراسة حملت عنوان (في القصة القصيرة… مقاربة منهجية)، تأليف: د. عبد الكريم حسن.

يتناول المؤلف في دراسته هذه أربع قصص لأربعة مبدعين تمكّنوا، كلٌّ على طريقته، من تجميل الواقع، ووضع الإنسان في مواجهة شرطه الإنساني.

أول هؤلاء المبدعين هو (عبد الله عبد) الذي استطاع تجسيد احتكاك الفن بالواقع، على نحو فريد، في قصته (العربة والرجل). فعبد الله عبد وهو يصنع بطله في هذه القصة، كأنما يطلع معه من قاع الحياة الاجتماعية حمّالاً وحيداً معروكاً بالقهر والتوحّد والظلم، مشدوداً إلى عربة لا خلاص منها إلا بالموت، لا ينفك يواجه قدراً يشد ضحيته نحو الحضيض، ولا ينفك يغالب هذا القدر بجسده المهدوم وعزيمته الجبارة حتى النصر. وقد مارس “عبد” – من وجهة نظر المؤلف – هذا الحس عبر تقنية التكثيف؛ تكثيف الوصف، وتكثيف الحدث، فجاءت قصته أشبه ما تكون برحيق الواقع المر، واستطاع عبرها أن يخلّف في نفس القارئ أثراً بأن بطله ليس مجرد صورة محفورة في الذهن، بل هو قائم تمثالاً لانتصار الإنسان على واقع القهر والألم.      وثانيهم هو (عبد القادر ربيعة) وبطل قصته (التشويه من الداخل)، الذي صوّره ربيعة إنساناً طالعاً من لعنة المحرومين، والمسحوقين، معجوناً بأوجاعهم وخيباتهم، مسكوناً بأشواقهم إلى غد لا يأتي، وحياة تموت، بيد أن هذا البطل، وعلى الرغم من كل الصعوبات التي أجبرته الحياة الانخراط بها، بقي واعياً بشرطه الإنساني، وبإرادته الحرة.

ويرى د. عبد الكريم حسن أن عبد القادر ربيعة قد مارس حسه الفني في قصته هذه عبر تقنية الإيهام بالحدث وتشظيته، فجاءت قصته، في تداخل أحداثها وتعرجاتها، وفي استباقها واستعادتها، وبعثرتها ولملمتها، أشبه ما تكون بسيمياء الدهشة الآسرة، ، تمكّن خلالها ربيعة من رفع بطله إلى آخر الجلجلة، فإذا بالألم نقشٌ على رخام الفن، وإذ بالتشويه صلاة من أجل الجمال.

(عبد القادر عقيل) هو المبدع الثالث الذي تناولت هذه الدراسة قصته (الجاثوم) بالبحث والتحليل؛ فالبطل في قصته خرج من الحياة الغريزية عند الإنسان، وقد تمكّن عقيل من الغوص في هذا العالم الجحيمي لبطله، والعودة به وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة الخلاص، بعد التحرر من قدر داخلي نفسي، والخروج من جحيم الصراع مع الرغبات إلى نعيم التوازن في الإنسان. وقد استند عقيل في ذلك – بحسب رؤية المؤلف – إلى الحلم الذي لاذ بالتردد، فأيقظ في الذاكرة حسَّ القصص العجيب، مما أسهم في انتشال هذا البطل المعجون بالخطيئة من وحل الواقع، وغسله بالحلم، لينتصر الإنسان في النهاية على الرغبات الوحشية فيه.

أما المبدع الرابع فهو (محمد خُضيّر) الذي وضع بطل قصته (الأرجوحة) في مواجهة الموت الذي لا مفر منه؛ وبطل خُضيّر هنا هو عديد في واحد قدره مواجهة الموت. طفلة لا تستوعب الموت فتغمض عينيها وتمحوه، وأم عجوز تجابه الموت بحركاتها الواهنة، وبينهما فتى يقارع الموت بالاحتيال عليه. ويرى المؤلف أن خُضيّر قد اختط لنفسه في هذه القصة مساراً آخر لا يغريه فيه التكثيف في الوصف، بل الوصف بوصفه يقول غير ما يقول، فالوصف هنا لم يعد مجرد مدلول لدالّة، بل أصبح هو ودالّه دالاً جديداً لمدلول جديد، وتلك هي تقنية فيض المعنى، التي ارتفعت بالوصف إلى المستوى الذي أصبح فيه الوصف بطلاً آخر في موازاة البطل الذي يرسمه الحدث.

إذاً، تضعنا هذه الدراسة، إزاء أربعة مبدعين، وأربع قصص تصف كل منها واقعاً تنتقص منه، وتعلو عليه، وتحل محله، واضعة إيانا، بفضل سحرها النفسي على طريق الحقيقة الحقة، والواقع الواقعي.

 

سلام الفاضل