دراسات

أزمة الهوية الأوروبية

عناية ناصر

لا غرابة أن تقاتل أوروبا كي تكون لها كلمتها، وهي لا تهتم بدراما “البريكست”، وصعود الشعبوبة اليمينية، والانقسامات الداخلية، لتجد نفسها في خضم صراع على النفوذ بين اللاعبين الكبار الثلاثة في العالم، حيث تحاول كل من الولايات المتحدة وروسيا والصين إما تجاهل القارة أو تقسيمها أو تسليحها بقوة لتحقيق أغراضها الخاصة.

هذا النوع من الضغط القادم من موسكو أو بكين ليس مفاجئاً أو جديداً، لكن ما تغير في اللعبة هو الولايات المتحدة، إذ  اتخذت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال العام الماضي قرارات واعتمدت سياسات تؤثر على أوروبا دون مراعاة مصالحها. وسواء أكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون هو الأكثر تنبهاً في أوروبا أم لم يكن، فإن دعوته من أجل الاتحاد الأوروبي الذي يتمتع بالاكتفاء الذاتي من الناحية العسكرية (لحماية مصالحه عندما لا يحميها الآخرون)، والمستقل دبلوماسياً (ليرسم مواقعه عندما لا تريد أمريكا ذلك)، والمستقل اقتصادياً (للالتفاف على العقوبات الأمريكية عندما تهدف هذه إلى حظر سلوك مشروع)، تستحق النقاش، وهذا ما يؤكد أن الاتحاد الأوروبي يحتاج إلى الدفاع عن نفسه في مواجهة الممارسات الأمريكية الخاطئة.

على الجبهة العسكرية، أبرزت سلسلة من القرارات التي اتخذها الرئيس الأمريكي ضعف أوروبا أمام تقلبات الحالة المزاجية لأمريكا: انسحاب القوات الأمريكية الجزئي من شمال شرق سورية، واغتيال الجنرال الإيراني قاسم سليماني، والخطط الأمريكية لتخفيض أو حتى لسحب قواتها كاملة من غرب إفريقيا – وهي منطقة يُنظر إليها على أنها بوابة للإرهاب والهجرة غير الشرعية إلى أوروبا – يمكن لها كلها أن تنطوي على تداعيات كبيرة على الأمن الأوروبي.

كما سيتطلب إنشاء قوة أوروبية أكثر استقلالاً التغلب على العقبات السياسية والاقتصادية واللوجستية المذهلة، وستحتاج أوروبا أيضاً إلى تحقيق توازن عمليات عسكرية أفضل مع السياسة، بما في ذلك دعم الجهود المبذولة لتهدئة نزعات التطرف، وربما المشاركة  في حوار مع بعض الزعماء المتطرفين. ومع ذلك، فإن زيادة القدرة الأوروبية على نشر القوات يمكن أن تمنح القارة قدرة أكبر على حماية مصالحها.
هناك الكثير مما يجب على أوروبا فعله على الجبهة الدبلوماسية، إذ يحتاج الاتحاد الأوروبي إلى الدفاع عن نفسه في مواجهة الخلل  أو الممارسات الأمريكية الخاطئة. وفيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، على سبيل المثال، قامت الولايات المتحدة بعدة تحولات دراماتيكية، من الاعتراف بالقدس كعاصمة للكيان الإسرائيلي، وضمها لمرتفعات الجولان، إلى الإعلان أن المستوطنات لا تنتهك القانون الدولي، وصولاً إلى صفقة القرن التي أعلن عنها مؤخراً.

مرة أخرى، لن يشكل وجود موقف أوروبي موحد تحدياً صغيراً بالنظر إلى الانقسامات بين العواصم الأوروبية، لكن الصوت الأوروبي الموحد – الصوت الذي يصر على أنه بغض النظر عن النتيجة المحددة، يجب منح الفلسطينيين في الأراضي المحتلة حقوقاً مدنية متساوية – سيكون موضع ترحيب بالنظر إلى اهتمام القارة باستقرار الشرق الأوسط.

أخيراً، لا يوجد أي تبعات للعجز المالي الأوروبي أكثر وضوحاً مما يتعلق بإيران، فانسحاب الولايات المتحدة من الصفقة النووية وفرض أقصى قدر من الضغط على طهران كانت له عواقب سلبية متتالية بالنسبة لأوروبا، من تراجع إيران التدريجي عن التزاماتها النووية وتصاعد الهجمات في الخليج إلى إضعاف القتال ضد “داعش”.

رداً على ذلك، سعت الدول الأوروبية إلى تخفيف متواضع للعقوبات الاقتصادية لإقناع إيران بالبقاء في الصفقة، لكن التهديد الذي تشكله العقوبات الأمريكية قد أعاق تلك الجهود.

أما إذا كانت هيمنة الولايات المتحدة على الأسواق العالمية تعني السيطرة على مساحات من السياسة الخارجية الأوروبية، فإن التحدي الذي يواجه أوروبا هو إيجاد طرق فعالة للتحايل على النظام المالي الحالي وإنشاء نظام محصن من ذراع أمريكا الطويلة.

إذاً، أوروبا عالقة في العديد من المعضلات التي لا تحسد عليها، لكنها يمكن أن تختار التمسك بالولايات المتحدة على الرغم من الخلافات الكبيرة والشعور بالعجز، كما يمكن لها أن تتحدى الولايات المتحدة وتتحمل نتائج ذلك، أو يمكنها أن تعزز رهاناتها عن طريق تعزيز العلاقات مع القوى العظمى المتنافسة، وتجعل نفسها عرضة للاستغلال في هذه العملية.

أياً كان ما ستفعله، لا ينبغي لها أن تغير جانباً رئيسياً من جوانب السياسة الأوروبية الحديثة القائمة على الشعور بالمسؤولية عندما يتعلق الأمر بحل أخطر المواقف في العالم، وفن الحكم وإدارة الموارد لإحداث التغيير (تسلط قائمة المراقبة 2020، التابعة لمجموعة الأزمة، الضوء على 10 صراعات يمكن فيها للاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء تعزيز العمل من أجل السلام).

من خلال طرح نفسها في حل النزاعات في المناطق ذات الأهمية الجيوسياسية الكبيرة (مثل إيران أو أوكرانيا)، إلى تلك التي تعاني من الإهمال الدولي، مثل البحيرات الكبرى أو بوركينا فاسو أو بوليفيا، والسعي إلى مزيد من الاكتفاء الذاتي العسكري والدبلوماسي والأدوار المالية، قد لا تحل أوروبا أزمة هويتها تماماً، ولكن يمكنها أن تساعد في جعل العالم مكاناً أكثر أماناً عندما تقوم بذلك.