دراسات

صفقة القرن.. رؤية توراتية تبنتها الصهيونية

ريا خوري

تعرَّضت القضية الفلسطينية إلى عدد كبير من مشاريع التصفية منذ بدأت وحتى اللحظة الراهنة، وما صفقة القرن سوى محاولة من محاولات عديدة فاشلة تهدف إلى إنهاء هذه القضية. فقد كان قادة الحركة الصهيونية منذ بداية المشروع الصهيوني في فلسطين يطرحون شعار “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، لكن المبادرة التي قدّمها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ما هي إلا رؤية خرجت على شكل صفقة أطلق عليها صفقة القرن، وهي رؤية توراتية تبنّتها الصهيونية مستندة لما ورد في سفر الخروج:

“اطردهم من أمامك في سنة واحدة لئلا تصير الأرض خربة فتكثر عليك وحوش البريّة، قليلاً قليلاً اطردهم من أمامك إلى أن تثمر وتملك الأرض”.

هذا المنهج العقائدي تبنّته الحركة الصهيونية وما زالت تمارس عمليات الترحيل والطرد والتطهير العرقي، كما لا زالت تلك الإستراتيجية مسيطرة في العقيدة السياسية الإسرائيلية على اختلاف ألوان وأطياف الأحزاب والقوى السياسية في الكيان لتسوية الصراع العربي- الصهيوني. وبناءً على ذلك الحلم الصهيوني “إسرائيل الكبرى” الذي تتمسّك به كل القوى اليمينية واليسارية والوسط في الكيان، وفقاً لما ورد في سفر التكوين: “فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عَقَدَ اللهُ مِيثَاقاً مَعْ أَبْرَامَ قَائِلاً: سأعطي نسلك هذه الأرض من وادي العريش إلى النهر الكبير، نهر الفرات” الآية 18- 19. تمسَّك قادة الكيان بإستراتيجية “أرض بلا سلام أفضل من سلام بلا أرض”، بالمقابل كان الرفض الفلسطيني تاماً وواضحاً لكل ما ورد في الصفقة والرؤية الأمريكية بوصفها الضربة القاصمة والعملية النهائية لتصفية القضية الفلسطينية.

لقد جاءت رؤية دونالد ترامب في سلسلة خطواته لاستكمال صفقة القرن 21 بعد أن كانت صفقة القرن الـ20 بدأت بـ”اتفاقية سايكس بيكو” ووليدها “وعد بلفور” وزير خارجية بريطانيا آنذاك عام 1917، لكنَّ الصفقة الأمريكية الصهيونية الجديدة كان من المفترض طرحها قبل نحو عام كامل، وتمّ تأجيلها بسبب الأزمة السياسية داخل الكيان، مع العلم أنّ ترامب كان قد قدَّم عناصرها على دفعات، أولها اعترافه بأنَّ مدينة القدس عاصمة أبدية للكيان، وقيامه بنقل سفارة بلاده إليها، وثانيها إهداؤه الجولان العربي السوري المحتل إلى الكيان بذريعة الاعتراف بسياسة الأمر الواقع، وثالثها إعلانه أحقية الكيان الصهيوني وأمنه في ضمّ غور الأردن وشمال البحر الميت، أما رابعها فقد كانت التتويج الفعلي لكل ما سبق وهو إعلانه الموافقة التامة على “يهودية الدولة”، وفرض ما أطلق علية عملية “السلام” وهي في جوهرها عملية “استسلام”.

في الواقع، إن جميع تلك الخطوات تؤكد بشكل صريح وواضح انتهاك الشرعية الدولية وقرارات مجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة. فقد عملت الصفقة على تبديد ما تبقى من إمكانية إعلان دولة فلسطينية وفقاً للشرعية الدولية سواء قرار التقسيم 181 لعام 1947، أو قرارات مجلس الأمن الدولي رقم 242 لعام 1967، والقرار رقم 338 لعام 1973، وقرارات الجمعية العامة الخاصة بحق تقرير المصير للشعب العربي الفلسطيني.

لقد حظيت الرؤية الأمريكية بموافقة وتأييد منقطع النظير داخل الكيان، على الرغم من تباين الأيديولوجيات المكوّنة للتجمع السكاني في الكيان. ومن خلال المتابعة للشأن الصهيوني يبدو أنَّ استطلاع الرأي الذي أجرته وأشرفت عليه جامعة تل أبيب مع المعهد الديمقراطي أظهر أنَّ 74% من الذين تمّ استطلاع آرائهم يرون فشلاً ذريعاً لصفقة القرن ومن الصعب تحقيق أهدافها، على الرغم من موافقتهم أنَّ الرؤية الأمريكية للحل تصبّ في مصلحة الكيان الصهيوني بالدرجة الأولى، وأنها تعبِّر عن البُعد الأمني لدولة الاحتلال، وجعلت من الشعب الفلسطيني وقيادته أداة لتحقيق الأمن والاستقرار. ومع ذلك رفض اليمين الصهيوني المتطرِّف هذه الصفقة، لأنها نصَّت على إقامة دولة فلسطينية على الرغم من أنَّ الخارطة الجديدة لم تُشِر سوى إلى جزر أو مقاطعات فلسطينية أشبه بالكانتونات المنفصلة عن بعضها البعض، والتي لا تمثِّل أكثر من 15% من مساحة فلسطين التاريخية، بينما قدَّرها آخرون  12% من مساحة فلسطين التاريخية، وهي دولة منزوعة السلاح والسيادة الفعلية لا يربطها سوى معابر صهيونية وجسور وفق الرؤية الأمنية الأمريكية.

رفض اليمين المتطرف وأحزاب اليسار في الكيان هذا المشروع ليس للصفقة بحدّ ذاتها، بل لورود نص فيها يدعو إلى الاعتراف بدولة فلسطين رغم صغرها، فقد دعت كافة الأحزاب في الكيان الصهيوني إلى عدم السماح لأي حكومة “إسرائيلية” الاعتراف بأي دولة فلسطينية مهما كانت ضيّقة وضعيفة وهشَّة، أو بممارسة عملها أو التصويت لها. ما يدلّ بالضرورة على أن حقيقة الصراع هو صراع ديمغرافي، فالكيان الصهيوني كان يعبِّر صراحة ومن خلال مؤتمرات “هرتسيليا” السنوية وغيرها من المؤتمرات عن خوفه من القنبلة الديمغرافية الفلسطينية.