ثقافةصحيفة البعث

أدب الموسيقا

يعتمدُ الأدبُ عامةً على الموسيقا في أساليبهِ التعبيرية لغاية الإعجاب والإمتاع، بل لقد قُرنت الموسيقا بفنِّ الشعرِ خاصةً، حتى أُلِّفت كتبُ العَروضِ التي تدرس الموسيقا والإيقاعَ في الشعرِ والنثر والأدبِ، وتحكي عما تُحدثهُ الكلمةُ من نغمٍ بجرسها واتساقها وانسجامها مع غيرها من الكلماتِ، وكيف تحدث في النفسِ متعةً، ودرست أيضاً من حيثُ ارتباطُها بالموضوعِ ونفس الشاعرِ أو الأديب، ولذلك أصبحت الموسيقا ملازمةً للأدبِ عند النقادِ والشعراء وجمهورهم. يقولُ فاليري: “إنَّ مهمة الشعرِ أنْ يستردَّ منَ الموسيقا ما سلبتهُ منْهُ”، وإنَّ من مظاهر جمالِ اللغةِ رنينُ التشكيلِ الشعريِّ القائمِ على الانسجامِ والاتساقِ والتوازن، وكما رأى نزار قباني أنَّ الشاعرَ قد يُلاحقُ رنينَ الكلماتِ وإيقاعَها قبلَ الكلمة ومعناها، ثم تجيءُ الكلمةُ فتخرجُ في الموسيقا التي تصرخُ في أُذنِ الشاعرِ فيُصبحُ شعراً.

والموسيقا أرقى الفنونِ وأسماها، فيما أرى؛ لأنها من الفنون الزمانية المجردة التي تتحكم في الزمن، ولقوة عدواها الفنية، يقولُ فاغنر: “عجيبٌ أمرُ هذهِ الموسيقا.. إنها لا تمسُّ شيئاً إلا جعلتهُ صافياً نقيّاً”، ويقول تولستوي: “على الإنسانِ أنْ يتمرَّسَ بالفنِّ والموسيقا؛ لأنَّ الأخيرةَ تُنقذُ القلوبَ من جراثيمِ الطمعِ والأنانية”، ويقول توماس كارليل: “إذا نظرتم عميقاً بما فيه الكفاية سترون الموسيقا قلبَ الطبيعة في كلِّ مكان”. أما هوغو فيقول: “الموسيقا هي ما لا يمكنُ قولُه”.

ولكن، ماذا لو تأملنا مقامات الموسيقا وألحانها لنفهمَ ما تقولهُ؟ لماذا لا يكون للموسيقا لوحاتٌ وشعرٌ وأدبٌ وحكايا تريدُ أن تقوله؟ تأمل معي أيها القارئ ما رأيتُهُ وسمعتُهُ في بعضِ المقامات..

مقام الراست:

يُمثِّلُ العشقَ في أيِّ زيٍّ ارتداه، وأيِّ إيقاعٍ يمتطيه، تتعانقُ أرواحُ المُحبّين فيه، إنَّهُ لحظةُ العناقِ بعدَ فراقٍ دامَ ردحاً طويلاً، ترافقها ضحكةٌ شبيهةٌ بصاعقةٍ تحرقُ المآسي والأحزان، فتتمايلُ الأبدان والأرواح طرباً. إنَّهُ رعشةُ الحُبِّ ونشوتُهُ في كلِّ فنونِهِ.. أبيضُ اللونِ، حلوُ المذاقِ، دائريُّ الشكلِ لعاطفتِهِ الجيّاشةِ، ذو طبيعةٍ ناريةٍ لكثرةِ ألسنة لهبه الراقصة المهيجةِ للمشاعر. من الأغاني التي لُحِّنت على مقامِ الراست: (الحب كله، أسامينا لفيروز، ملا الكاسات موشح، تقول أنسى لكاظم الساهر، مستنياك لعزيزة جلال).

مقام النَّهوند:

مدينةٌ ضبابية ناعسة، يمشي في شوارعها رجلٌ في الستين من عمره، يدخنُ بشراهةٍ ويطلقُ الدخانِ الكثيف، مرسومةٌ على وجههِ ملامحُ الكآبةِ، يستمعُ في الحاراتِ الضيقة إلى حكايات الناسِ عن قصصِ حبٍّ نهاياتها محزنة، فيعيشها حزيناً. لونهُ رماديٌّ يوحي إلى تعبِ السنين، طبيعتهُ ترابية تبعثُ سامعَهُ إلى التفكيرِ والتأمل.. من الأغاني المُلحَّنة على النهوند: (لمّا بدا يتثنى، أعطني الناي، بكتب اسمك يا حبيبي، كل القصايد).

مقام البيات:

صرخةٌ يُطلقها شاعرٌ عاشقٌ حينَ يركبُ بحرَ الحبِّ، موجاتُه متقلبة بين السكينةِ والهيجان، يتجهَ نحوَ برِّ المعشوقِ، ناشداً الخلاصَ من قسوةِ الحبِّ وعذاباته، يرفعُ يديهِ نحو السماء ويدعو: يا ربِّ إنَّني أتقطعُ شوقاً إلى محبوبتي، فيطلقُ صرخاتٍ مع كلِّ موجةٍ تموج.. ذو طبيعةٍ مائية، أحمرُ اللونِ يُذكي نارَ الشوقِ والعشقِ فتغدو الروحُ مجنونةً ترقص فرحةً وتصرخ حزينةً.. من الأغاني التي تصرخ على مقامِ البيات: (حب إيه، حبيتك تنسيت النوم، ست الحبايب، فوق الشوك، على حسب وداد).

مقامُ السيكا:

أسيرُ بين أشجار السرو الخضراء والرياحُ مضطربة، أرددُ بينَ شفتيَّ الصلوات والتعويذات وأناجي اللهَ في نفسي، أعيشُ ملاحمَ هوميروس بأحداثها البطولية، بطولة أخيل وتحدّي أوديسيوس، أشارك برومثيوس في التمردِ وأسرقُ النارَ لإسعادِ البشرية، أهيمُ مع بجماليون بتمثاله ثمَّ أحطمه، أسمعُ مناجاة يوسف في البئر، أسمعُ تسبيحَ يونس في بطنِ الحوت، أعاين هجرة الرسول إلى المدينة، وفتح مكة.

تلك حالاتٌ تجتاحني عندما أسمعُ مقامَ السيكا الذي أخالهُ أزلياً، روحياً ومادياً، فأعيشُ في مثلثٍ إلى أنْ يُقذني مقامُ الراست أو البيات ثمَّ أعودُ إليه ثانيةً.. مثلثُ الشكلِ، أخضرُ اللونِ، يسعى للبقاء والدوام، ذو العنصرين المتناقضين (الماء والنار) حيثُ الصراعُ الدائمُ بين المادة والروح.. من الأغاني التي لحنت على السيكا: (دارت الأيام، سيرة الحب، الأطلال، سوا ربينا، بليل وشتي، ظلموه لعبد الحليم، إني خيرتك لكاظم الساهر، شو قولك فينا نرجع).

مقام الحجاز:

كلُّ شيءٍ يبكي.. عناقيدُ الكرمِ حينَ نقطفها تبكي، الطفلُ حينَ يولدُ يبكي، الغيومُ للبحارِ تبكي، الأرواحُ التي عرفت مصدرَها تبكي، الأصوات، الرياح، كلُّ شيءٍ كلُّ شيء.. كلُّه يبكي حنيناً وشوقاً لفراقِه عن منشئه. إنَّهُ حنينُ الفرعِ إلى الأصل الذي تبكي فيه الأصواتُ والكلماتُ.. أسودُ اللونِ يشعُّ حنيناً، ذو طبيعةٍ هوائيةٍ مملوءٌ بالأنين الذي يحمله بين ثناياه.. من الأغاني التي تبكي على مقامِ الحجاز: (طلعلي البكي، مضناك جفاه، بحلم بيك، يا غزالي لصباح فخري).

ولك أن تتأملَ، أيها القارئ، مقامَ العجم فسحةً سماوية زرقاء تبعثُ على الأمل، وأن تسمعُ مقام الصّبا كأنَّهُ أنينُ المذنبين، وأن ترى لوحاتٍ ومشاهدَ في المقامات والألحان، وتسمعُ شعراً أدباً إذا تأملتَ أعماقَها، وإنَّ الملحنَ المبدعَ لا يفوتُهُ عمقُ معاني الكلماتِ حتى تطلبَ المقامَ وتلهمهُ هي اللحن المناسب لها.

مجد أحمد القادري

Alqadery1987@gmail.com