رأيصحيفة البعث

“الذئبية” في العصر الكوروني

أحمد حسن

بطبيعة الأمور، وكما في حالات تاريخية سابقة، وضع “الوباء” الإنسان، بشخصه ومؤسساته، أمام سؤال البقاء المفصلي، ليكشف، بكل وضوح، عن نوعين من البشر: الأول مازال، وهو يجابه الموت القادم من عدو غير مرئي، متمسّكاً بإنسانيته وقيمه الأخلاقية التي راكمها خلال مسيرته الحضارية الطويلة، والثاني تعرّى من كل ذلك ليعود “ذئب أخيه الإنسان”، على حد ما ذهب إليه الفيلسوف البريطاني الشهير توماس هوبز.

يتمثّل النمط الأول ببشر يمتدون على مساحة العالم المعروف، ومنهم قادة وساسة – وهم قلة على أي حال – فهموا أن مقصد السياسة الرئيس والنهائي – وإن كانت تسيّرها المصلحة وتخضع للمتغيرات المعروفة – على ما هو مفترض ومتعارف عليه في كل السنن والشرائع السماوية والوضعية، هو حفظ النفس البشرية قبل كل شيء آخر، وبالتالي ذلك هو واجبهم الأول والأخير في زمن الوباء؛ فيما تمثّل النمط الثاني فعليّاً بساسة – يصدف أن أغلبيتهم الساحقة من قادة العالم الغربي – لم يروا في السياسة ومقاصدها إلا المصلحيّة الضيّقة، إما لدوافع شخصية بحتة، أو قومية متعصّبة، أو عنصريّة عرقية، ليكونوا، في التطبيق العملي، الذئب الذي يغتنم فرصة الوباء كي يلتهم كل ما، ومن، يقدر على التهامه.

وإذا كانت القائمة “الذئبية” طويلة للغاية، فإن الرئيس الأمريكي يتصدّرها دون منازع؛ فبينما يرتفع صوت العالم مستغيثاً وباحثاً عن التضامن وتدارك ما يمكن تداركه في مواجهة الوباء، ينتهز “الرجل” الأثر الاقتصادي المميت الذي يخلّفه “كورونا” حيث يضرب – وهو يضرب الجميع – ليشدّد من عقوباته الاقتصادية – اللاشرعية أساساً – على دول محدّدة بهدف ابتزازها وتركيعها ضارباً عرض الحائط بكل مناشدات الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية وغيرها من المؤسسات الدولية التي اتفق العالم المتحضّر على إنشائها لمواجهة مثل هذه الكوارث القاتلة.

وبالطبع لا ينتظر أحداً من “زعيم” يجد أن “موت مائتي ألف أمريكي فقط من جراء كورونا أمر جيداً جداً”، أن يحفل بحياة الآخرين، فبين إعلانه – على طريقة “رعاة البقر” كما وصفها نيكولاس مادورو – الحرب على فنزويلا في هذا التوقيت الصعب، وبين تصعيده العقوبات على إيران وسورية وغيرها من الدول، وبين ما كشفته صحيفة “نيويورك تايمز” عن استعداده لإشعال العراق عسكرياً، يتّضح جليّاً أن “الذئب” قد أفلت من عقاله لاعتقاده، ومعه عتاة أركان إدارته المسكونين بمزيج قاتل من الدوافع الاقتصادية “الكلبية” الطابع، والرؤى العنصرية والتهويمات الدينية القيامية، أن “الوباء” فرصة سانحة للقضاء على التهديدات الاستراتيجية التي تهدّد مركز القطب العالمي الأوحد الذي كانته واشنطن بعد انتصارها في الحرب الباردة، وبالتالي يمكن له، بانتهاز هذه الجائحة، أن يجتاح العالم بأسره، سواء عن طريق “الخنق” الاقتصادي، أو الاجتياح العسكري إذا لزم الأمر.

والأمر، فإن “ترامب”، وإدارته، يضربان بذلك، على ما يطمحان، عصفورين بحجر واحد: الأول، تنظيف “حديقتهم الخلفية” من أعدائهم، وهم في الحقيقة القادة الوطنيون في أمريكا اللاتينية، وأهمهم بالطبع “مادورو”، وبالتالي تسجيل نقطة هامة في مرمى “العدوّين” الاستراتيجيين (الصين وروسيا)، والثاني، الاستمرار في استنزاف خيرات العالم لمواجهة موجات التغيّرات الحتميّة التي بدأت تعصف بأسس النظام العالمي الحالي اقتصادياً وسياسياً وثقافياً واجتماعياً على خلفية تبعات “كورونا”.

بيد أن الوقائع تتخطّى طموحات الجميع، فقد أصبح واضحاً أن العالم الذي لم يستطع مواجهة هذه “التبعات” بصورة صحيحة وفعّالة بـ”أدواته الرأسماليّة” المعروفة – أوروبا مثال كاف – لم يعد بمقدوره، بحسب “سلافوي جيجك”، المضيّ بهذه الأدوات ذاتها، ما يعني، بالمآل النهائي، أن العالم الجديد لن تحكمه “النيوليبرالية” الفاجرة التي أوصلتنا، شرقاً وغرباً، عالماً أول وثانياً وثالثاً ورابعاً، إلى هذه اللحظة الحرجة عُزّلاً من أدوات المواجهة التي كانت تُقنع الجميع أنها في متناول يديها وحدها باعتبارها الترياق الشافي والوحيد لأمراض العالم بأسره.

قصارى القول: هذا مخاض عالم جديد!! وككل مخاض مشابه، لن يستسلم القديم بسهولة أمام الجديد، لذلك من الطبيعي أن تكون “أجواء الفوضى وعدم التيّقن هي سيّدة الموقف بلا منازع”، ومن الطبيعي أيضاً أن تنفلت الذئاب البشرية من عقالها، لتكون هي بذاتها “وباء” السياسة والعالم، ما قد يؤدي إلى حرب “الجميع ضد الجميع” بحسب “هوبز” مرة جديدة، وبالتالي تمخّض “عام الأزمات الاستثنائية” هذا – كما وصفه باحث عربي – عن “حرب عالمية ثالثة” قال “اينشتاين” عنها أنه لا يعرف نوعية الأسلحة التي ستستخدم فيها، لكنه يعرف أن العصي والحجارة هي الأسلحة التي ستستخدم بعدها.

وبغض النظر عن حقيقة أن المواجهة ستكون عالمية وضمن محاور كبرى، فإن من الضروري والملحّ التأكيد على أن الربح سيكون نصيب الأقوياء فقط، فـ “الرابح يأخذ كل شيء”، بحسب “هوبز” مرّة جديدة، وبالتالي من الواجب تحصين الدواخل كي لا “يتناصر الوباء والمجاعة مع الفوضى واستيلاء الفساد”، بحسب وصف فيلسوف عربي قديم لأجواء مشابهة حدثت في زمنه، وسلاحه الأساس، إن لم يكن الوحيد في هذه الظروف المعقّدة، العدالة الاقتصادية داخلياً، فهي اليوم أساس مكين، إن لم يكن الوحيد، للتقليل من أضرار ما هو قادم لا محالة.