دراسات

سموم المعرفة..!!!

أمجد حامد السعود

لا شك في أن المعرفة بجوانبها المختلفة نظرية كانت أم عملية هي منتج بشري خاضع لعوامل عديدة في النشوء والتطور والجمود وحتى الاختفاء، هذا الخضوع ينتج عن تموضع المعارف والعلوم داخل بيئة مضيفة لها هي السيرورة التاريخية غير المتناهية، و عن فاعل أساسي لا يفنى إلا بزوال الحياة على الأرض وهو العنصر البشري فلا معرفة ولا علوم دون تواجد هذين العاملين.

تنطلق المعارف والعلوم سواء كانت نظرية أم عملية من قواعد وأرضيات ثابتة اتفق عليها العقل البشري منذ القديم محاربا كل الظروف والأوضاع التاريخية التي كانت تحول دون جعل الوضعية العقلية الأس المعرفي الأول في تفسير أية ظاهرة من الظواهر سواء الإنسانية أو الطبيعية والعائق الأكبر لذلك والذي تجسد في السلطة الدينية اللاهوتية.

المعرفة.. مصلحة أم منفعة؟

من أبرز خصائص المعرفة أنها مستمرة استمرار الإنسان بغض النظر عن تقدمها أو تراجعها خيرها من شرّها، فالتطور والجهل والخير والشرّ هي متناقضات موجودة في كل زمان ومكان بحكم طبيعة البشرية المصلحية أو النفعية، وهنا لا بدّ من التمييز بين المصلحة السلبية المتأصلة بمفهوم النفعية والمصلحة الإيجابية المتمثلة بمفهوم التنمية، وعليه فإن علاقة الإنسان بالمعرفة هي إما علاقة مصلحية ارتبطت بشكل أساسي منذ البداية للحفاظ على النوع الإنساني وعمران الإنسانية وإما علاقة نفعية لتجسيد سيادة الأقوى على الضعيف وفي كلتا الحالتين المعرفة لا تقولب مصادرها وتفرض مقاصدها على الإنسان بل هو الذي يروّضها ويستهلك سمّها أو ترياقها وفقا للطريق الذي أراد أن يكون فيه مصلحيا أو نفعيا.

المعرفة وصراع الأجيال

(اللي أكبر منك بيوم أعلم منك بسنة) من الأمثال الشعبية التي يتم تداولها على مسامعنا عندما نصل إلى نقطة الفصل الصراعية في المعرفة بين أجيال عاصرت المعارف والعلوم القديمة وتطورها وبين أجيال ولدت في رحم الزخم المعرفي الكبير في الحياة والتقدم العلمي الهائل في العلوم النظرية والعملية، ومن وجهة نظر (ما بعد حداثية) لا يمكن إخضاع العلمية لمسألة الصواب أو الخطأ لجهة تجاوز الأسلاف في المعرفة، فالمعرفة تنأى بنفسها عن الموروثات الاجتماعية والثقافية التي يتوارثها الأجيال ولا ذنب لها إن تجاوزت تلك الموروثات بمراحل متقدمة. وبناء عليه فإن مسألة إخراس الصغير عمريا أمام الكبير في حديث المعرفة من شأنها أن تقوّض أبرز خاصية من خصائص المعرفة وهي الاستمرار في التطور، فكما عاش ذاك المعرفيّ الكبير زمنه وطوّر من معارفه وصارع أجيالا سبقته، من حقّ جيل الناشئة أن يكون له دور وتاريخ مضيء يرويه للأجيال اللاحقة في تطوير تلك المعارف لا سيّما أنه منذ أن وُلِد وجد نفسه في مركز التطور المعرفي العلمي والتكنولوجي، فبدلا من أن نلقنه أساسيات المعرفة ليثاقفها ويؤسس عليها ويكون له دور حرّ وفاعل فيها نعزله عن محيطه الاجتماعي الثقافي ونستنسخ نماذج معرفية قديمة فيه، أو نقوم على تنشئته بشكل سليم ونحفزّه على الإبداع والابتكار منذ الطفولة وعندما ينضج نسلخه عن ذلك ونسكته بموروثات قديمة سبقتها المعارف بسنين ضوئية!! فكثيرة هي نماذج الجموح العلمي المعرفي التي وصفت بالجنون في البداية إلا أنها قدّمت للبشرية نظريات علمية وابتكارات عملية لا تقدر البشرية اليوم على التخلي عن إحداها.

المعرفة التحصيلية والمعرفة الحضورية

لا يمكن إنكار مسألة تراكمية المعارف والعلوم بأنها القاعدة الأساس في مناهج تطور العلوم وتقدمها سواء الطبيعية منها أم النظرية، فالجديد لا يمحو ما سبقه وهنا يظهر الدور الأساسي للمعرفيين الكبار في نقل مكتسبات المعرفة وقواعدها الأساسية لجيل الناشئة الذي بدوره يتلقف تلك الأساسات المعرفية ويتحصل عليها ويطابقها مع الوجود أي ينتقل بتلك المكتسبات من حالة الأفكار المجردة إلى حالة المطابقة الواقعية، وهنا قد نقع في إشكالية تتعلق بكيفية عرض التاريخ العربي بمجمله والجانب المعرفي فيه كجزء لا يتجزأ منه وكيفية مطابقة الناشئة لما يُروى لهم من سطور مضيئة في تاريخ الأمة العربية لا يجدون لها أي تفسير أو مطابقة فيما يعاصرونه في الوقت الراهن،وهنا لا نتحدث عن الأوابد المادية الملموسة وإنما نتحدث عن مطابقة إدراكية لواقع حضاري معرفي عربي سمعوا عنه سابقا من المفترض أن يُدرك في الوقت الراهن بملامسة ما هو متقدم عنه!!!

والأخطر من ذلك ما يُحدثه هذا العرض الإيجابي الصرف من أثر في النفس لجهة المثالية التي يتم عرضه بها، فلا يمكن أن نضع الناشئة أمام حالة تاريخية معرفية نموذجية خالية من الشوائب دون أن نعرض له بالمقابل بعض المثالب لتلك الحقب المتوالية، لأن بلوغ تلك الحالة من الشوفينية في التعامل مع التاريخ سيحدث أثرا نفسيا سيئا لدى المتلقي لها سواء على صعيد الوصول إلى تلك الحالة في الوقت الراهن أو على صعيد تطوير ما هو مثالي للغاية، فحالة الكمال لا يمكن الوصول إليها في أي شيء وخصوصا في المعارف والعلوم التي هي ديناميكية بطبيعتها فكيف يتم التطوير والبناء على المثالية في مثل هذه الحالة!!!

من المهم أن يتعرف الناشئة على التاريخ المعرفي ولكن بطريقة نقدية لا تجعله أسيرا لبراثن الشوفينية فيه وإنما مواجهته بحالة من المعرفة الحضورية أيّ التطلع إلى الماضي من خلال الحاضر والعمل على تطويره للمستقبل وليس العكس فلا يمكن أن نتقدم للأمام وجلّ حواسنا شاخصة إلى الوراء.

هذا العرض يوضح بأن مواطن الخلل ليست في المعرفة نفسها فنحن لا نتحدث عن معرفة مسمومة وإنما سموم منتجة بشريا تجعل من الترياق (المعرفة) سمّا يحكم علينا بالموت السريري هو حالة من الانفصال عن الواقع في عالم السيرورة المعرفية الأبدية (Limitless Knowledge).