ثقافةصحيفة البعث

ستيفان تسفايغ.. الشّاهد على الهزيمة الرّهيبة للعقل!

” أجلسُ في حجرتي، لا دفاع لي كذبابة ولا حول لي كقوقعة ”

لا يمكن لنا ونحن نعيش ظروف الحرب الكارثية التي شنّتها قوى التغوّل العالمي علينا، إلّا أن نكتبَ عن تجارب أشخاص وشعوب تعرّضت قبلنا لكلّ أنواع التطرّف والإرهاب. نستذكرها لا لنقول أنّها قضاءٌ وقدرٌ، ولكن لتكون لنا عونا على المواجهة كلّما توحّشتْ البشرية وانحدرتْ إلى الحضيض. ومثالنا، هو اسم لمع كالبرق في سماء النصف الأوّل من القرن العشرين. وانطفأ في الستين من عمره، وهو في ذروة العطاء الفكري والأدبي. إنّه الكاتب والمسرحي والمترجم النمساوي ستيفان تسفايغ المولود عام 1881م والمنتحر 1942م احتجاجا على الحروب ومآسيها. صاحب الكتب المهمّة التالية: “أربع وعشرون ساعة في حياة امرأة” وهي رواية ترجمها الأسعد بن حسين و”بناة العالم” من جزءين، الأوّل “حول هولدرلن، دوستويفسكي، بلزاك” والثاني حول “ديكنز، تولستوي، ستندال” ترجمة محمد جديد. و”ساعات القدر في تاريخ البشريّة”، ترجمة محمد جديد، و”فوضى المشاعر” ترجمة ميشيل واكيم وقصي أتاسي، و”ماري أنطوانيت” ترجمة دار أسامة في دمشق. كان تسفايغ صديقا لأكبر مفكّري وفنّانيّ وموسيقيّ القرن العشرين من فرويد إلى رومان رولان إلى شتراوس إلى سلفادور دالي، إلى لينين، مكسيم غوركي، إلى ريلكه، بول فاليري والقائمة تطول.. وشاهدا معاصرا لأكبر حربين عالميتين “الأولى والثانية”.

يقول الكاتب بتواضعٍ شديد في مذكّراته الرّشيقة السّرد والتّرجمة، الممتلئة بالرّوح السّمحة، والرؤية الناضجة اللّاصداميّة للواقع وقواه المتصارعة آنذاك، التي طبعتها وزارة الثقافة السورية عام 2009م تحت اسم “عالم الأمس” وقد تمّت كتابتها في الغربة، أثناء غمار الحرب: “لم يسبقْ لي قطّ أن علّقتُ على شخصي من الأهميّة ذلك القدر الذي كان خليقا أن يغريني بسرد قصّة حياتي على الآخرين، وأنا لا أستطيع أن أقرّ لنفسي، من بين الآخرين الذين لا يُحصون عددا، إلا بذلك الموقف الواحد الذي وقفتُه نمساويّا، يهوديّا، كاتبا، إنسانيّ النّزعة والهوى، نصيرا للسلام. أما نتاجي الأدبي باللّغة الذي كتبته بها فقد أُحرق وتحوّل إلى رماد، حتى في البلد ذاته الذي حَوّلتْ فيه كتبي ملايينَ القرّاء إلى أصدقاء لي، وحتى وطني الحقيقي الذي اصطفاه قلبي، وهو أوروبا، ضاع منّي منذ أن تمزّقتْ أوصاله مرة ثانية بأسلوب انتحاريّ في حرب بين الأشقّاء. وأصبحتُ خلافا لإرادتي، شاهدا على الهزيمة الرّهيبة للعقل، وعلى الانتصار الأكثر جموحا للفظاظة والوحشيّة على مرّ الحقب والدّهور.. لقد رأيت الإيديولوجيّات الجماهيريّة الكبرى تتنامى وتستفحل أمام عيني، ولاسيما ذاك الداء العضال، داء النازيّة الذي سمّم ازدهار حضارتنا الأوروبيّة، ولم يكن لي بدّ أن أكون شاهدا لا حول له ولا دفاعا، على ارتداد البشريّة الذي لا يمكن تصوّره، إلى بربريّة كنا نحسب قد طواها النسيان منذ عهد بعيد، بما تنطوي عليه من عقيدة معادية للبشرية مبرمجة ومتعمّدة، وقد كُتب علينا أن نرى، مرّة أخرى، منذ قرون من الزمان، حروبا من دون إعلان حرب، ومعسكرات اعتقال، وعمليات تعذيب، ونهب جماعي، وغارات بالقنابل على مدن لا دفاع لها، وأعمال وحشيّة من كلّ تلك الألوان التي ما عادت الأجيال الخمسون الأخيرة تعرفها، وتأمل ألا تتعرّض لها الأجيال المقبلة.

يقول تسفايغ: “هنا كنتُ أقعد، شأن كلّ الآخرين، في حجرتي، لا دفاع لي، كذبابة، ولا حولَ لي كقوقعة، على حين كانت المسألة تتعلّق بالحياة أو الموت، بأناي الأعمق على الإطلاق، وبمستقبلي، وبالأفكار الآخذة في النشوء والتّكوّن في دماغي وبالخطط الوليدة والخطط التي لمّا تولد بعد، وبيقظتي ومنامي، وبإرادتي، وبما أملك، وبوجودي كلّه. هناك كان المرء يقعد منتظرا، في صبر، يحدّق ببصره في الفراغ، مثل محكوم في زنزانته، محاطا بالجدران، مطوّقا بالسّلاسل والأغلال في هذا الانتظار والانتظار الذي لا معنى له، ولا حول”.

“وقلتُ في نفسي: فلتنسَ هذا! ولتفزع، هاربا إلى أعمق حرشٍ من أحراش نفسك، إلى عملك، إلى هذا الذي لا تكون فيه إلا أناك التي تتنفّس، ولا تكون مواطنا في دولة، ولا شيء من هذا العبث الجهنّمي، حيث يكون حظّك المتواضع من العقل هو وحده الذي ما زال يُحدث أثره على نحو معقول في عالم بات مجنونا”.

لو ظلّ تسفايغ حيّا حتى الآن، وهو الذي أمل بألّا تعيش الأجيال القادمة حروبا دمويّة جديدة، لكان انتحرَ ثانية وثالثة، لما ستراه عيناه من فنون مروّعة في القتل الوحشيّ المعاصر. هذا الانتحار الذي يذكّرني شخصيّا بانتحار دكتور في الفنّ التشكيليّ، تعرّفتُ عليه أثناء ارتيادي للمكتبة الوطنيّة في دمشق، هو مهيار الملوحي كاحتجاجٍ صامت على الحرب الظالمة على سورية عام 2011م. ومازالتْ آخر عبارة سمعتها منه تطنّ صاخبة في أذنيّ حدّ الألم، بأنّه “غير قادر على تخيّل البوط الأمريكي يتجوّل في شوارع دمشق”. وهاأنذا أقول لك يا صديقي بعد مضي تسع سنوات على الحرب المجنونة على سورية. بأنّ العنجهيّة الأمريكيّة ستمرّغ بالوحل، على تراب سورية العربيّة. فللشّعوب كلمتها الأخيرة دوما، وإنّ غدا لناظره قريب. فـ”ترامب” العصر الحديث، شأنه شأن متوحّشي التاريخ، هتلر وموسوليني ونيرون وأردوغان ونتنياهو.. وغيرهم.. سيمضون إلى مزبلة التّاريخ.

أوس أحمد أسعد