ثقافةصحيفة البعث

الكوميديا السوداء.. بين الجد والسخرية

برزت الكوميديا السوداء كنوع من التصنيف الأدبي للأشكال الأدبية المختلفة في الولايات المتحدة في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، ووفقاً لكاتب السيناريو جون تروبي، عندما يتم استعمال الكوميديا السوداء كأساس لفكرة ومسار القصة، فإنها تدور حول مجتمع يعاني من حالة غير صحية وتريد الشخصية الرئيسية المحورية شيئاً ما لسبب أو لآخر ليس في صالح ولا فائدة نفسه ولا المجتمع. يكون المشاهدون قادرين على رؤية وإدراك ذلك بأنفسهم، وعادة ما تكون هناك شخصية مساعدة وداعمة في القصة ترى وتدرك جنونية الموقف، ومن النادر للشخصية الرئيسية – إن لم يكن أبداً – أن تتعلم درساً دون أن يقع لها أي تغيير ملموس من خلال العذابات والابتلاءات التي تعاني منها، ولكن أحياناً يُعرض عليهم طريق ومسار عقلاني للفعل.

الكوميديا السوداء هي عنصر وموضوع وسمة سائدة ومنتشرة في العديد والكثير من الأفلام والعروض التلفزيونية وألعاب الفيديو. في عام 1964، قدّم المخرج الأمريكي ستانلي كوبريك فيلم “دكتور سترانج لاف” الذي يعد واحداً من الأمثلة الرئيسية للكوميديا السوداء، وكان موضوع الفيلم هو الحرب النووية وإبادة ودمار الحياة على الأرض، وفي العادة وبشكل عادي، فإن الدراما التي تتحدث عن الحرب النووية تعالج الموضوع باتزان وثقل وجدية، وتخلق إثارة وتشويق حول الجهود المبذولة من أجل الحرب النووية، ولكن “دكتور سترانج لاف” عرض الموضوع من أجل اجتذاب الضحكات من المشاهدين، على سبيل المثال في الفيلم الإجراءات الأمنية الاجهاضية المصممة لإفشال ومنع الحرب النووية هي نفسها وذاتها تحديداً بالضبط الأنظمة التي تتأكد وتتيقن من أنها سوف تحدث وتقع. ومجموعة الكابتن ماندريك هي الشخصية العاقلة المتعلقة في المجتمع المتاعي المتهالك المتجلل، والميجور كونغ يلائم ويملأ دور البطل الذي يكافح من أجل هدف مؤذٍ ومضّر.

الكوميديا السوداء تجمع بين خفة الدم وبعض القصة الجّادة وهي تُقدّم شيئا جديدا، وتصّور المفارقة الصارخة بين السلوك والقيم وتتسلح بالضحك والجنون والمحاكاة الساخرة لتدمير كل الثوابت التي تستند إليها الأنظمة السياسية المعاصرة على جميع الأصعدة والمستويات، بمعنى أن الكوميديا السوداء فلسفة تأملية مأساوية تندد بعبثية الواقع وعدمية المجتمع، وتشدّد على انحطاط القيم الإنسانية الأصيلة، وتحتفل بحياة العبث والإخفاق والفشل والسقوط التراجيدي. إنها فلسفة الضحك الممزوج بالبكاء الهستيري والتركيز على ما هو غريب وشاذ في سلوكيات المجتمع ولغته والخلط الهستيري العجيب بين الأساليب والفنون والأزمنة والأمكنة والتغني بفلسفة العبث والعدم، أما أسلوب التمثيل والعرض الذي يعتمد عليه المخرج في تقديم الكوميديا السوداء فيتسم بالمبالغة الشديدة في الحركة ومسرحية الأداء المفتعلة، مع المفارقات المحسوسة الصارخة التي تظهر في أبسط صورها في ارتداء النساء لملابس الرجال وقيام الرجال بأدوار النساء، بحيث يصعب التمييز بين الجنسين، ويبدو جميع الممثلين كمخلوقات شاذة تائهة كذلك يعتمد هذا المسرح بدرجة كبيرة على المؤثرات البصرية المبهرة، وأعمال القسوة السادية، كما يعتمد على خلط الأزمنة والأمكنة التاريخية، وفي المسرحية نفسها لا نجد أغاني الديسكو وأحدث الموضات المجنونة في فنون الرسم والتصوير. وأمام هذا الخلط الهستيري العجيب الذي يثير إحساساً بالرعب يعرفه كل من تعّرض يوماً للإحساس باقتراب الجنون،لا يملك الإنسان إلا الإغراق في الضحك هرباً من جنون العصر، واعترافاً باستحالة إصلاحه.         إن الكوميديا السوداء التي ظهرت في المسرح العالمي في القرن العشرين – مع انتشار الفلسفات والفنون اللاعقلانية في الغرب مثل السريالية والدادئية والوجودية والعبثية والعدمية والتجريدية والتكعيبية وانتشار مسرح العبث، قائمة على أيضاً على فلسفة العبث والجنون والهذيان وإدانة القهر والتعسف والجور وهي نوعان: كوميديا ساذجة تعتمد على الهجاء البذيء والضحك المتتابع والفكاهة المثيرة. وكوميديا راقية تعتمد على الصراع الدرامي بين المواقف والشخصيات والقيم. إن الكوميديا السوداء أو الكوميديا الجديدة هي فلسفة إنسانية مأساوية تعبّر عن عبثية الواقع، واندحار الإنسان تراجيدياً وسقوطه قيمياً وأخلاقيا ووجودياً، وتُعبّر أيضاً عن فلسفة عدمية  يتقاطع فيها الحلم والجنون، الوعي والهذيان، الشعور واللاشعور، الضحك والبكاء، الموت والحياة، وترتكز أساساً على إحساس عميق باللاجدوى أو العدمية، وعلى العموم ظهرت الكوميديا السوداء أولاً في السينما على يد المخرج الأمريكي جاك سميث في فيلمه “المخلوقات الملتهبة والحب الطبيعي”، ونجدها أيضاً عند ألفريد هتشكوك. ولم ينتقل مسرح الكوميديا السوداء إلى العالم العربي إلا في سبعينيات القرن الماضي وذلك بعد انحساره في أوروبا وأمريكا.

وتأسيساً على ما سبق، توجد الكوميديا السوداء في جميع الأجناس الأدبية من مسرح وسينما وقصة ورواية وشعر وقصة قصيرة جداً، وتحمل في طياتها رؤية إبداعية عبثية متشائمة قوامها الضحك الجنوني والهستريا اللاواعية والنقمة العارمة على معايير السلطة والمجتمع. ومن هنا فإن الكوميديا السوداء هي دراما واقعية جدلية نقدية تجمع بين الجد والهزل من أجل تغيير الواقع، وتحرير الإنسان على مستوى الوعي والذهن والشعور.

إبراهيم أحمد