ثقافةصحيفة البعث

“ابن الرومية” يصمت عن الحكاية!!

جمان بركات

رحل “ابن الرومية” مع حكايات قبائل الحب والسحر والخيال، رحل الفنان الذي كان يتقن الفصحى التي نحبها في آذاننا كما نتقن شرب الماء، ورحل من كان يكنس ألم غربتنا عن المسارح بعينيه الحنونتين وهو يدق بقدميه ناقوس الخشب.

رحل “ابن الرومية” الحكواتي بصوته الجهوري وأدائه المميز، رحل وظلت “صفورية” – بلدته التي ولد فيها عام 1942 في فلسطين – أرض الحلم والحقيقة تذكر عودته إليها عام 2012، وتذكر خطواته على ترابها، وإيقاع العائد الدائم العاشق لأرضها، يعلن في كل مرة أن هذه الأرض عليها يحيا النبلاء.

عُرف أبو القاسم بشخصيته القوية والمؤثرة في الوسط الفني كونه فنانا متألقا ومبدعا ومحبوبا لدى الجميع، وقد تميز بالصدق والأخلاق الرفيعة والتسامح والمحبة وسرعة الذكاء، وكل هذه الصفات جعلته مقربا من الجميع، أما الأشخاص الذين عرفوه من خارج الوسط الفني فكانوا على توافق على روحه المرحة وأخلاقه العالية في التعامل مع الآخرين.

الوجع الفلسطيني

لقد خسرت الحركة الفنية العربية والساحة الثقافية الفلسطينية برحيل عبد الرحمن أبو القاسم رمزا إبداعيا أثرى وأغنى بعمله الإبداعي المسارح والتلفزة العربية من خلال الإنتاجات الفنية الزاخرة والمميزة، وستظل إسهاماته وأدواره المختلفة علامات فارقة تتعلم منها الأجيال القادمة، فقد ساهم أبو القاسم في تأسيس المسرح الوطني الفلسطيني وعمل على نهضة الحركة المسرحية الفلسطينية بعد انطلاقة الثورة الفلسطينية، حيث آمن بدور المثقف والفنان في إسناد الفعل الكفاحي حماية لغايات وأهداف التحرر.

كانت فلسطين قبلته الأولى يحج إليها أينما كان، وفي مشاهده التي تحكي الوجع الفلسطيني كانت تسيل عبرات أبي هيثم بشكل فعلي، تجاوز فيها حدود التمثيل إلى درجة الاندماج الكلي بأوجاع الشعب الفلسطيني، وعند لقطة الحديث عن التلاحم الحقيقي بين الفلسطينيين والسوريين كان يبكي أبو القاسم بحرقة وهو يقول: وحده الشعب السوري لم يتركنا.

كان الراحل من خيرة الناس.. طباع دمثة، ويملك كل مزايا حسن الجيرة لجيرانه والعطف والحنو على أهله، كان في كل جلساته وسهراته ولقاءاته بمحيطه فاكهة الجلسة ونكهة الفرح من خلال تلك الأحاديث الشائقة التي يرويها لهم، فيتحلق حوله كبيرهم قبل صغيرهم ليستمعوا له بكل إصغاء، وكأنه يجسد شخصية “ابن الرومية” التي أتقنها في مسلسل “الجوارح”، والتي ملكت في جعبتها الكثير والكثير من الحكايات.

وكان معروفا عنه في محيطه الاجتماعي بعدم رد الملهوف ونجدة كل من يقصده بالمال والخدمة والعطاء، واليوم فقد الوسط الاجتماعي الذي يعرف الفنان الراحل قيمة كبيرة في وجدان هذا المجتمع وأهله، وإنسانا راقيا بكل ماتحمله الكلمة من معنى.

الفنان عبد الرحمن – كما تحدث عنه الفنان محمد فلفلة – كان هرما من أهرامات الدراما، هرما بأخلاقه وإنسانيته، كان أبا للصغير وأخا للكبير وصديقا مخلصا للجميع، ما التقيته مرة إلا والابتسامة تعلو وجهه مرحبا مستبشرا يسأل بصدق عن الأحوال، ويحب أن يطمئن على زملائه وأحوالهم، يمازح صغيرنا قبل كبيرنا ويحنو بعاطفة أقل ما يقال عنها الأبوية الصافية… رحمه الله رحمة واسعة.

وكتب شادي كيوان على صفحته على مواقع التواصل الاجتماعي: هذا الرجل النبيل هو أولُ ممثلٍ يحضر لي عرضا، كنت مأخوذا بسحر حضوره وأختلس النظر إليه وأفكر ما الذي حمله على القدوم إلى عرضٍ للهواة قد يكون تافها بالنسبة إليه.. يومها قال لي: “مو في تعب وعرق، لازم احترمه وأجي أحضر”.. هكذا كان مُحبا وقلبه يتسع للكثير من العطاء والمحبة.

كان الراحل صاحب شخصية استثنائية في الوسط الفني لعمله الكبير والرائع، وقامة عملاقة في المسرح العربي، وشيخا من شيوخِه. ولطالما وقف جمهور المسرح احتراما وحبا عند كل عرض قدمه أبو هيثم.. واليوم يغادر دون جمهور يودعه بسبب وباء الكورونا، إلا أنه بالتأكيد ستفتقده المسارح كلها، وهي على يقين أن خشبتها لن يأتيها مثل عبد الرحمن أبو القاسم الذي قدم العديد من المسرحيات المميزة منها مسرحيات: الاغتصاب، عمو أبو محمد، ثورة الزنج، تخاريف، المؤسسة الوطنية للجنون، السمرمر، السهرودي.. وغيرها.

تميز وحضور

تاريخ عبد الرحمن أبو القاسم المسرحي العريق يقابله نجاح في التلفزيون والسينما، ومن أعماله السينمائية: الأبطال يولدون مرتين، صهيل الجهات، بستان الموت، زهر الرمان، دمشق تتكلم، الأمانة، وموكب الليمون. ومن أعماله التلفزيونية: سقف العالم، عطر الشام، خاتون، طوق البنات، البحث عن صلاح الدين، زمن الصمت، رايات الحق، وجه العدالة، خالد بن الوليد، المسلوب، البواسل، آباء وأمهات، تل الصوان، الثريا، شتاء ساخن، وغيرها الكثير. وأنهى الفنان الراحل منذ شهرين تصوير مشاهده في مسلسل “بروكار” المقرر عرضه في موسم دراما رمضان 2020، من إخراج محمد زهير رجب وتأليف سمير هزيم.