ثقافةصحيفة البعث

فنون الأطفال وفن الكبار

 

هيام سلمان

فنون الأطفال.. هذه الفنون التي تدخلنا إلى بوابة عالم خاص ساحر ومرهف وصادق، والتي تناولتها دراسات كثيرة بالبحث لتجتمع على تقسيم مراحل التعبير الفني عند الأطفال إلى مراحل متعددة ومتميزة تبدأ من مرحلة التخطيط إلى مرحلة رمزية تبرز فيها الإيحاءات الشكلية والأنماط المتكررة التي تنتج عن تلخيص الطفل لخبراته السابقة بمجموعة أشكال وأنماط يكررها ويعتاد عليها، ولطالما أتتنا تساؤلات عدة من أهالي أطفالنا يتساءلون عن تكرار طفلهم لرموز محددة في معظم رسوماتهم/الشجرة، الجبل، الشخص،….الخ/ راغبين في أن ينوع الطفل في رسومه لأنهم لا يعلمون بأن هذا التكرار هو تكريس لما يعرفه الطفل من خلال تكراره لعناصر تجعله يشعر بالاطمئنان والأمان في مرحلة عمرية معينة، وأنه سيتجاوز هذا في مرحلة عمرية لاحقة لينتقل إلى الرسم وفق أساليب الكبار الأكاديمية، ليصور الواقع ويسجله كما هو ويعتني بقياساته وحجومه .وأن لكل مرحلة من مراحل نموه نمطا متطورا عن المرحلة التي تسبقها، ليترافق عمره الزمني مع إدراكاته الجمالية وتذوقه.

ورغم أن هناك بعض الأطفال قد لا يسيرون ضمن هذه السلسلة من التدرجات لأسباب عديدة أهمها أن لكل طفل إدراكه ووعيه الخاص للأشياء، وقدراته العقلية والانفعالية التي تتفاوت وتتمايز من طفل لآخر، فنرى طفلا يصل إلى وعي النسب في مرحلة مبكرة بينما يتأخر طفل آخر عن إدراكها، غير أن هذا التقدم أو التأخر في الإدراك يجب ألا يكون مقياسا لمفاضلة أحدهما على الآخر، لأن لكل مرحلة من مراحل تطوره أهميتها وقوتها الخاصة المؤثرة والتي يجب على الأهل دعمها وإعطاء الفرصة للطفل بالانتقال السلس عبر هذه المراحل .

ولعوامل البيئة والمجتمع الذي يعيش فيه الطفل آثار كبيرة تنعكس على تنوع وغنى موضوعاته، فالطفل الذي يعيش في الريف بقرية صغيرة بعيدا عن كل وسائل العناية والاهتمام لن يستطيع أن يرسم الموضوعات التي يرسمها طفل آخر يعيش بالمدينة وتتم مساعدته بتقديم كل الوسائل التي تعينه على التعلم والتفتح وصقل موهبته، وهذا ما أكدته جميع الدراسات النفسية التي أجراها علماء التربية حول فنون الأطفال، ففن الطفل ليس مجرد أشكال تتطور، بل هي مجموعة من الموضوعات التي تؤثر فيها البيئة والمجتمع لتكون لوحته انعكاسا لهذا المجتمع الذي يصبغ أحلامه الخاصة بألوانه وحركته.

وفي دراسات أخرى اتجه معظم النقاد والباحثين إلى اعتبار/فن الأطفال ليس فناً/ مفسرين ذلك بأن رسوم الأطفال تتعلق بكل مرحلة من المراحل التي يمر بها كل طفل لتنتهي بعدها وينتقل إلى مرحلة أخرى، وقد يستمر الطفل الموهوب بعد مرحلة الوعي بالتعبير الفني وقد لا يستمر . كما اتجه البعض الآخر في تفسير تلك المقولة إلى أن فنون الأطفال هي فنون غير واعية ومن أهم شروط الفن أن يكون منتج العمل الفني واعياً لما يقوم به من تعبير، وعليه لا نستطيع أن نصنف فنون الأطفال كفن واتفق النقاد على تسميته /فن الطفل/ واعتبروا أنه يمثل نمطاً خاصاً من أهم سماته العفوية والتلقائية، حيث يعبر الطفل عن نفسه بحرية كاملة ودون أية قيود، إنه فن لا يتضمن إدراكا للكتلة أو الفراغ أو المنظور، ولا يعي النسب والأبعاد التقليدية للأشكال أو الألوان بشكلها المتعارف عليه، بل هو فن ابتكر فيه الطفل لنفسه فراغاً ومنظوراً وزماناً ومكاناً خاصين به، وتصرف بالنسب والأبعاد وفق رموز معينة لها دلالاتها ومعانيها الخاصة به.

ومع ذلك أصبحت فنون الأطفال مصدرا للإلهام لبعض الفنانين في تجاربهم الفنية كالسريالية والتجريدية والتعبيرية فالتقوا مع فنون الأطفال في خصائصها المميزة /التسطيح، الاختزال، التحوير، الرمز….الخ/ وبهذا يصبح فن الطفل مختلفاً عن فنون الكبار باعتباره نمطاً خاصاً من التعبير وعلينا ككبار أن نتعرف على خصائص هذا الفن المميز لنستطيع قراءته بروح جديدة ومختلفة عما نفعله مع فنون الكبار، وعلينا أن نتوقع أن يرسم الطفل شخصاً ما بأسلوب مختلف عما اعتدناه، ويبتكر أشكالاً نعجز عن توقعها وبالتالي عن تقويمها، لأنها لغته الخاصة وهي عصية عن التوقع أو الحصر، هي لغة واسعة التعبير، لا محدودة، وفي حال حاولنا أن نطلب من الطفل أن يكون واعياً وعارفاً بالقواعد الأكاديمية وهو لم يلج إلى تلك المرحلة بعد فسنكون قد وقعنا في مجموعة كبيرة من التناقضات كبيرة جداً.

ووفق ما سبق علينا أن نتفق على أن لغة وأساليب وموضوعات فن الطفل تجعله أكثر الفنون صدقاً لأنه يحمل مضموناً إنشائياً، بصياغة صادقة، ولغة خاصة، ومضامين تعكس حقائق الحياة التي يعيشها. ولهذا علينا أن نمتلك الأساليب التي تمكننا من الحكم عليه، وما أصعب ذلك حين يكون العمل مبتكراً ومبدعاً ومليئاً بالجدة والطرافة والغرابة، فلنبدأ خطواتنا الأولى تجاه أطفالنا بتشجيعهم على الرسم للتعبير عن أنفسهم ومحيطهم وتأمين الأدوات الفنية اللازمة لكل مرحلة عمرية، ومساعدتهم على استعمالها دون التدخل في طريقته التعبيرية، ولندعم مواهبهم من خلال توفير المناخ الملائم دون تحديد للأنماط أو فرض للأساليب، ولتكن الحرية هي الطريق الأوحد الذي ندعمهم للسير فيه.