ثقافةصحيفة البعث

أدباء ينحازون إلى العزلة

قدمت العزلة للعالم روائع أدبية فريدة، حفظها التاريخ على مر الأجيال على اختلاف مسبباتها، اختيارية كانت أم إجبارية، كهذه العزلة التي يعيشها العالم اليوم، إثر جائحة “كورونا”، التي أوجدت أزمات على المستويات كافة، ويواجهها المبدعون بنصوصهم ويومياتهم من داخل معتزلهم.

تأتي كلمة “الحجر الصحي” من الحجر الإيطالي وتعني “أربعين”، ونشأت ممارسته قبل وقت طويل من فهم الناس لما كانوا يحاولون بالضبط احتواءه، ولم تكن فترة الأربعين يوماً لأسباب طبية، ولكن لأسباب كتابية، حيث يشير كل من العهدين القديم والجديد إلى إشارات عديدة للرقم أربعين في سياق التطهير.

العديد من الكتاب كانت لهم عزلتهم الاختيارية أو أراء حول أهمية العزلة، فالروائي الروسي دوستويفسكي يصف العزلة بأنها نضج وزاوية صغيرة يقف فيها المرء أمام عقله، وكتب “مشكلتنا يا صديقي.. كلما نضج العقل فضلنا الانعزال والوحدة”، تلك العزلة الموحشة في بعض الأحيان، لم تمنع الروائي الأمريكي إرنست همنغواي من وصفها بأنها وطن للأرواح المتعبة، والفكرة ذاتها جسدها الشاعر الإسباني رافائيل ألبرتي حينما كتب “أنت في وحدتك بلد مزدحم”.  أنطونيو فرناندو بيسوا شاعر وكاتب وفيلسوف برتغالي، ويوصف بأنه واحد من أهم الشخصيات الأدبية في القرن العشرين، كتب في كتابه الأشهر (كتاب اللاطمأنينة)، نصاً عن “العزلة” يقول فيه: “عزلتي ليست بحثاً عن سعادة لا أمتلك روحاً لتحقيقها؛ ولا عن طمأنينة لا يمتلكها أحد إلا عندما لا يفقدها أبداً، وإنما عن حلم، عن انطفاء، عن تنازل صغير”. إن عزلة بيسوا في يومياته ومذكراته، ورغم معاناته من مرض اضطراب ثنائي القطب، عوّضت حبيبته الواقعية بعشيقة خيالية، وأبدلت أصحابه الواقعيين بأصدقاء افتراضيين، وبعد 30 عاماً على وفاته في العام 1968 اكُتشفت “الحقيبة السحرية” لمخطوطاته وأعماله الكتابية كلها التي كان وزعها ونشرها بأسماء “أقرانه” السرّيين المُخترَعين. كأنه في هذا أراد أن يكون المحور السري لـ”الحركة الأدبية البرتغالية الحديثة” في العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين.

الكاتب الروماني إيميل سيوران، الفيلسوف صاحب الشذرات الساخرة والاعترافات المثيرة، عاش منعزلاً في غرفة لأحد أصدقائه في قلب العاصمة باريس لمدة تقارب الأربعين عاما أيضاً، لكنه كان يغادر بيته من حين إلى آخر، كان مؤلف “سيرك العزلة” يرفض المشاركة في اللقاءات الثقافية والحوارات الإعلامية، وهو حين يختار العزلة، فهو لا يعتزل الناس وحسب، بل يعتزل الأفكار السائدة والمجترة، ليعانق فكراً جديداً مخالفاً، وتصورات مغايرة، كما يشدد على ذلك في سجله النثري الساخر.

أما محمود درويش ففي يومياته (أثر الفراشة) يقول: “في العزلة كفاءة المؤْتمن على نفسه، العزلة هي انتقاء نوع الألم، والتدرب على تصريف أفعال القلب بحرية العصامي، تجلس وحدك كفكرة خالية من حجة البرهان، دون أن تحدس بما يدور من حوار بين الظاهر والباطن، العزلة مصفاة لا مرآة ترمي ما في يدك اليسرى إلى يدك اليمنى، ولا يتغير شيء في حركة الانتقال من اللافكرة إلى اللامعنى، لكن هذا العبث البريء لا يؤذي ولا يجدي: وماذا لو كنت وحدي؟ العزلة هي اختيار المترف بالممكنات، هي اختيار الحر، فحين تجف بك نفسك، تقول: لو كنت غيري لانصرفت عن الورقة البيضاء إلى محاكاة رواية يابانية، يصعد كاتبها إلى قمة الجبل ليرى ما فعلت الكواسر والجوارح بأجداده الموتى، لعله ما زال يكتب، وما زال موتاه يموتون لكن تنقصني الخبرة والقسوة الميتافيزيقية تنقصني وتقول: لو كنت غيري”.

ويقول أيضاً: «فإنني أدمنت العزلة، ربيتها وعقدت صداقة حميمة معها، العزلة هي أحد الاختبارات الكبرى لقدرة المرء على التماسك، وطرد الضجر هو أيضاً قوة روحية عالية جداً. وأشعر أنني إذا فقدت العزلة فقدت نفسي، أنا حريص على البقاء في هذه العزلة، وهذا لا يعني أنه انقطاع عن الحياة والواقع والناس، إنني أنظم وقتي في شكل لا يسمح لي بأن أنغمر في علاقات اجتماعية قد لا تكون كلها مفيدة”.

المفكر اللبناني ميخائيل نعيمة في سيرته “سبعون”، وصف عزلته بأشد الأوصاف وقعاً حين قال، “حريص كل الحرص على عزلتي، فالعزلة حاجة في نفسي مثلما الخبز والماء والهواء حاجة في جسدي، ولا بد لي من ساعات أعتزل فيها الناس لأهضم الساعات التي صرفتها في مخالطة الناس”.

وإذا كان البعض قد اعتبر عزلة المعري اضطرارية، حين تجنب اللقاء بالآخرين، لكونه صار ضريراً، فلم يقو على البقاء في العاصمة بغداد، حيث اجتمع فلاسفة عصره، إلا أن طه حسين سيعتبر عزلة الرجل اختيارية، والتي يبرز معناها العميق في بيت شعريّ يقول فيه: ” توحّد فإن الله ربّك واحد/ ولا ترغبن في عشرة الرؤساء “، الآن لم يعد يخرج الشاعر- الفيلسوف من بيته مطلقاً، ولا يبدي أي اهتمام بالعالم الخارجــي.

وإذ يمجد أبو القاسم الشابي العزلة ويصفها بأنها السعادة فإنه يقدم في مقطوعة شعرية قصيرة أهم أسس المذهب الرومانسي في الأدب فيقول:

وإن أردت قضاء العيش في دعة… شعرية ليس يغشى صفوها ندم

فاترك إلى الناس دنياهم وضجتهم… وما بنوا لنظام العيش أو رسموا

واجعل حياتك دوحاً مزهراً نضراً..  في عزلة الغاب ينمو ثم ينعدم

واجعل لياليك أحلاماً مغردة ..     إن الحياة وما تدوى به حلم

عُلا أحمد