دراساتصحيفة البعث

متى تستيقظ النخب الأمريكية؟

سمر سامي السمارة

 

بعد اجتياح فيروس كورونا لمناطق واسعة في الولايات المتحدة، أصبح من الضرورة بمكان أن يطرح أي أمريكي مجموعة من الأسئلة المهمة: مثل ما هي التهديدات الحقيقية التي يواجهها؟ وما هي أولويات الإدارة الأمريكية من حيث أمن المواطن، والدولة ؟ وأين تذهب كل أموال الضرائب الخاصة بالأمريكيين؟

عند التأمل في هذه الأسئلة يكون من السهل الاستنتاج أن أولويات الأمن القومي الأمريكي كانت منحرفة للغاية عن الواقع لدرجة أنها تركت البلاد غير مستعدة بتاتاً لمواجهة التهديد الكبير الذي يطال الملايين من الأمريكيين.

كان تركيز الإدارة الأمريكية ينصب بشكل كبير على تهديد “الجماعات المتطرفة” والأنظمة غير الصديقة خاصة في الشرق الأوسط.  إذ أنفقت الولايات المتحدة على مدى عقدين من الزمن، تريليونات الدولارات لشن الحروب واحتلال المزيد من الأراضي، وبذلك تضاعف عدد الأعداء حول العالم، مع تحول حياة الملايين في الشرق الأوسط إلى حياة بائسة، لكن تأثير هذه الإدارة على الولايات المتحدة مؤخراً  كشف أن الدولة  التي أنفقت تريليونات على الحروب الخارجية ليست قادرة على الدفاع عن مواطنيها ضد التهديدات والتحديات الجوهرية مثل المرض والانهيار الاقتصادي.

كشف مشهد الأسابيع القليلة الماضية عن حكومة فدرالية عاجزة عن القيام بما هو ضروري لوقف انتشار وباء على الأراضي الأمريكية. ولم يقتصر الأمر على التخلف الكبير عن القدرة على إجراء الاختبار مثل الدول الأصغر والأقل ثراءً كـ تايوان وكوريا الجنوبية، فمن المرجح زيادة الوفيات بشكل مفرط لمئات الآلاف من الأمريكيين في المستقبل المنظور بسبب النقص في البنية التحتية الحيوية للصحة.  لقد توسل حكام الولايات الكبيرة علناً للحكومة الفيدرالية للحصول على أجهزة التنفس الصناعي والأقنعة والأدوات الأساسية الأخرى للتصدي لتفشي الفيروس، لكن لا يوجد ما يشير إلى وجود القدرة حتى الآن على الاستجابة لهذه الطلبات.في هذه الأثناء، استمر سيل الإنفاق العسكري الذي أطلقته الولايات المتحدة بعيد أحداث 11 أيلول 2001. وبحسب مشروع تكاليف الحرب الذي أعده باحثون في “جامعة براون”، أنفقت الإدارة الأمريكية منذ العام 2001 6.4 قرابة تريليون دولار على حروبها في أفغانستان والعراق وباكستان. ولا يأخذ هذا الرقم الضخم في الحسبان قيمة الفوائد المدفوعة من الاقتراض اللازم لدفع ثمن الحروب، الذي يمكن أن يصل إلى 8 تريليون دولار بحلول منتصف القرن، بالإضافة إلى تكاليف الفرص الضائعة على المجتمع الأمريكي لهذا الإنفاق الضخم على المغامرات الخارجية. وهناك أيضاً تضخمات مرافقة لميزانية البنتاغون الأساسية، والإنفاق المحلي على “الحرب على الإرهاب” في وزارة العدل والأمن الوطني، وبالتأكيد توسع كبير في الأجهزة الاستخباراتية ، وكلها غير خاضعة للمساءلة أمام عامة الأمريكيين. قتلت حروب “مكافحة الإرهاب” الأمريكية مئات الآلاف من الناس بينما فشلت في تحقيق أي فائدة سياسية أو إستراتيجية، وفي خضم هذه الأزمة لم تمر الحالة الخطيرة للبنية التحتية الحيوية لأمريكا دون أن يلاحظها باقي العالم، وعلى الرغم من أن الوباء بدأ في الصين، فقد أظهرت قدرة كبيرة للسيطرة على تفشي المرض محلياً، كما أرسلت أقنعة وأطباء لتقديم المساعدة إلى كافة أنحاء أوروبا وآسيا. و في حين تكافح إدارة ترامب لحشد استجابة مناسبة في الداخل، فإنها  توهن وتقوض جهود الدول الأخرى في معالجة الأزمة إذ قامت بذلك من خلال تحويل الموارد الحيوية بعيداً عن الحلفاء مثل فرنسا أثناء محاولتها تفادي تفاقم الوباء العالمي من خلال العقوبات الاقتصادية ضد أعداء مثل “إيران”، على الرغم من مناشدة حلفائها لتغيير المسار.و يرى مراقبون أن المحصلة النهائية لكل ما تقوم به الولايات المتحدة هو استنزاف مؤسساتها في السعي وراء حروبها الخارجية لتجد نفسها غير قادرة على حماية مواطنيها في الداخل.

وبدورها، أشارت ” ميرا راب هوبر” من مجلس العلاقات الخارجية الأميركي إلى الآثار المروعة للسياسة الأمريكية، إذ كتبت “يبدو أنه من غير المرجح أن تكون القيادة الأمريكية التي شجعت عن دراية هذه الكارثة العالمية قادرة على تحويل جهودها في الحكم عندما تتبنى  ضعف الحوكمة كإستراتيجية”. و أضافت “إذا خرجت الصين من هذه الأزمة التاريخية كزعيم واثق، فقد تستفيد من هذه الفرصة للبدء في وضع قواعد جديدة وفقاً لرؤيتها الخاصة بالحوكمة العالمية، وإزاحة واشنطن عن جهود الطلب المستقبلية”.

حتى بعد مضي أكثر من عقدين من الفشل الإستراتيجي في الشرق الأوسط وارتباط ذلك بإيذاء كارثي للأمريكيين العاديين بسبب الإنفاق الدفاعي الجامح، يبدو أن نسبة  كبيرة من النخب الأمريكية لم تستيقظ بعد من حلمها بشن حروب توسعية. وفي ظل جائحة عالمية يمكن أن تودي بحياة الملايين وتشل الاقتصاد الأمريكي لسنوات قادمة، هناك إشارات قوية على أن الجيش الأمريكي قد يطلب منه الشروع في حرب أخرى في أي منطقة في الشرق الأوسط. وبالتالي، سيخدم نشوب مثل هذا الصراع مصالح مجموعات النخبة المنظمة جيداً، ولكن من المستحيل أن تساهم هذه الحروب في تحسين الأمن اليومي للأشخاص العاديين الذين يعيشون على بعد آلاف الأميال في الولايات المتحدة. لذا يمكننا القول إن أمريكا دولة تستنفد قوتها من خلال المغامرات العسكرية الباهظة الثمن في الأراضي البعيدة، ولكنها غير قادرة مؤسسياً على توفير أساسيات الحياة لمواطنيها.