دراساتصحيفة البعث

عندما يكتب التاريخ عن تحرير سراقب ..

علي اليوسف

 

عندما يكتب تاريخ الحرب على سورية، فإن القتال الذي دار بين الجيش العربي السوري وحلفائه من جهة، وبين جيش النظام التركي والإرهابيين المدعومين من تركيا من جهة أخرى، من أوائل شباط حتى أوائل آذار 2020، سيندرج فيه كواحدة من المواجهات الحاسمة في تلك الحرب.

تعود جذور معركة سراقب إلى القتال الذي بدأ في كانون الثاني 2019، في شكل هجوم شنه الجيش السوري، بدعم من القوات الجوية الروسية، ضد الإرهابيين الموالين للنظام التركي في محافظة إدلب وحولها. وقد مثل هذا الهجوم السوري-الروسي رداً قوياً على النظام التركي الذي نكص باتفاقية سوتشي الموقعة في 17 أيلول 2018، التي حددت ما يعرف باسم “مناطق تهدئة التصعيد” في إدلب، حيث استغل النظام التركي فقرة واردة في اتفاقية سوتشي حول إقامة مراكز مراقبة لفصل الإرهابيين، وأقام عشرات “مراكز المراقبة” المحصنة بالجنود ومعداتهم  في جميع أنحاء منطقة إدلب لتثبيت وجوده ووجود الإرهابيين الموالين له.

لقد فرض اتفاق سوتشي إجراءات محددة من جانب تركيا، بما في ذلك الإشراف على إنشاء “منطقة منزوعة السلاح” داخل منطقة خفض التصعيد بهدف استبعاد الدبابات والمدفعية وقاذفات الصواريخ المتعددة، والتي ستتم من خلالها إزالة جميع الجماعات الإرهابية المتطرفة بحلول 15 تشرين الأول 2018، علاوة على ذلك كانت تركيا مسؤولة عن تأمين حركة المرور على الطريقين الاستراتيجيين M5 و M4، لكن تركيا نكصت في الوفاء بأي من التزاماتها بموجب اتفاق سوتشي وأنشأت نقاط مراقبة محصنة، ولم تلتزم بإنشاء مناطق منزوعة السلاح، ولم يتم إخلاء المعدات الثقيلة، ولم يتم نقل الجماعات الإرهابية المتطرفة من منطقة خفض التصعيد.

كان الهدف من الهجوم العسكري السوري في كانون الأول 2019 هو تحقيق ما فشل النظام التركي في تحقيقه لجهة استعادة حركة المرور على الطريقين السريعين M4 و M5، وطرد “هيئة تحرير الشام” وغيرها من الجماعات الإرهابية من مناطق تخفيف التصعيد. في مطلع شباط 2020، حاصر الجيش السوري، من خلال تقدمه، عدداً من مراكز المراقبة التركية،  ما وضع تركيا في وضع صعب سياسياً وهي تشاهد هزيمة الإرهابيين الذين دربتهم ومولتهم. وقد سعت تركيا إلى تقويض التقدم السوري في 3 شباط، من خلال تعزيز مركز المراقبة الذي يقع بالقرب من بلدة سراقب الاستراتيجية التي تقع على مفترق الطرق السريعة M4 و M5 ، وعندما تعرضت قافلة عسكرية تركية كبيرة متجهة نحو سراقب لقصف مدفعي سوري، والذي أسفر عن مقتل خمسة جنود أتراك وثلاثة مقاولين مدنيين أتراك، ردت تركيا بقصف مواقع للجيش السوري، ما أسفر عن مقتل العشرات من الجنود السوريين. كانت هذه الجولة الافتتاحية لما سيصبح معركة سراقب ومثلت أول قتال واسع النطاق بين الجيشين السوري والتركي منذ بدء الحرب على سورية في عام 2011.

كان الهجوم السوري على الجيش التركي في إدلب خطاً أحمر للرئيس أردوغان، الذي حذر في بيان أدلى به أمام البرلمانيين الأتراك في 5 شباط،  من أنه “إذا لم يتراجع النظام السوري عن مراكز المراقبة التركية في إدلب في شباط، تركيا نفسها ستضطر إلى تحقيق ذلك”. دعم أردوغان خطابه من خلال نشر عشرات الآلاف من القوات التركية، مدعومة بالدروع والمدفعية، على حدودها مع سورية، مع الاستمرار في إرسال التعزيزات إلى مراكز المراقبة المحاصرة داخل إدلب. وفي 6 شباط ، حرر الجيش السوري مدينة سراقب. بعد أربعة أيام ، في 10 شباط ، شن إرهابيون مدعومون من تركيا، بدعم من المدفعية التركية، هجوماً مضاداً على مواقع الجيش السوري حول سراقب، والذي تعرض للضرب مرة أخرى بنيران المدفعية السورية الثقيلة. وفي غضون ذلك، تعرضت نقطة تركية للمراقبة بالقرب من قرية تفتناز لقصف سوري، ما أسفر عن مقتل خمسة جنود أتراك وإصابة خمسة آخرين. ورد الأتراك بقصف مواقع الجيش السوري في مختلف أنحاء محافظة إدلب بالمدفعية والصواريخ.

وفي حديثه للبرلمانيين الأتراك بعد الهجوم على تفتناز، أعلن أردوغان أننا “سنضرب القوات السورية في كل مكان من الآن فصاعداً بغض النظر عن اتفاق سوتشي إذا حدث أي ضرر بسيط لجنودنا في مراكز المراقبة أو في أي مكان آخر”، مضيفاً: “نحن عازمون على دفع (القوات السورية) وراء حدود اتفاق سوتشي بحلول نهاية شباط”.

سمح تحرير سراقب للجيش السوري بالسيطرة على الطريق السريع M5 بأكمله للمرة الأولى منذ عام 2012. ثم شرع الجيش السوري في الدفع غرباً باتجاه مدينة إدلب. في المقابل ومن أجل كبح التقدم السوري، نشرت تركيا المئات من القوات الخاصة التي اندمجت في صفوف الإرهابيين بإسناد مدفعي وصاروخي. في 16 شباط، شن الإرهابيون، بدعم من القوات الخاصة التركية، هجوماً على مواقع الجيش السوري في النيرب وحولها، الواقعة في منتصف الطريق بين إدلب وسراقب، لكن تحررت النيرب في نهاية المطاف ليلة 24 شباط، وكانت التكلفة باهظة، حيث قتل مئات الإرهابيين، إلى جانب جنديين أتراك. ثم قام الأتراك وحلفاؤهم الإرهابيين بتحويل أنظارهم إلى سراقب نفسها، ودفعوا خارج النيرب وحصلوا على موطئ قدم في ضواحي سراقب الشرقية وقطعوا الطريق السريع M5 في عدة مواقع. قام الجيش السوري بتحويل معظم قوته الهجومية إلى الجنوب الغربي، حيث كانوا يتقدمون نحو الطريق السريع M4. وفي محاولة لكسر الهجمات الجوية الروسية والسورية، بدأ الجيش التركي في استخدام أنظمة الدفاع الجوي المحمولة (MANPADS).رداً على الاستخدام التركي لمنظومات الدفاع الجوي المحمولة، قصفت الطائرات الروسية والسورية كتيبة ميكانيكية تركية تعمل في جنوب إدلب في 27 شباط ، ما أسفر عن مقتل أكثر من 33 جندياً تركياً وإصابة حوالي 60 آخرين. تسبب هذا الهجوم في موجات صدمة عبر تركيا، حيث هدد أردوغان بمعاقبة جميع الأطراف المسؤولة، بما في ذلك الروس.

في 1 آذار، أمر الرئيس أردوغان القوات التركية بتنفيذ هجوم عام في إدلب،  أطلق عليه عملية “درع الربيع”، بهدف دفع سورية وحلفائها إلى المواقع التي كانت متواجدة فيها أثناء توقيع اتفاق سوتشي في أيلول 2018. توقف هجوم الإرهابيين على الفور في وجه المقاومة السورية الثابتة المدعومة بضربات جوية روسية، واستعاد الجيش السوري سراقب وسيطر على الطريق السريع M5 بأكمله.

بحلول 4 آذار، أدرك أردوغان أن المباراة انتهت، وسافر إلى موسكو في 5 آذار لحضور قمة طارئة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حيث تفاوضا على شروط اتفاق جديد لوقف إطلاق النار.

كانت قمة موسكو أشبه بحبة مريرة ليبتلعها أردوغان. وعلى الرغم من صياغتها على أنها “بروتوكول إضافي” لاتفاقية سوتشي القائمة في أيلول 2018، إلا أن الصفقة المبرمة بين أردوغان وبوتين في موسكو كانت وثيقة استسلام للأتراك على عكس خطابه الناري وتهديداته بإخراج الجيش السوري وحلفائه من إدلب، وعليه اضطر أردوغان إلى قبول منطقة “تهدئة” جديدة حددتها الخطوط الأمامية كما هي في 6 آذار.

حقاً، كانت معركة سراقب هي بداية استعادة السيادة السورية على مجمل الأراضي السورية، لقد كانت علامة فارقة لإيقاف أحلام أردوغان، وإيقاف فرض إرادة تركيا على دمشق و موسكو.