اقتصادصحيفة البعث

“حماية المستهلك” تبرر رفع الأسعار…ومنتجات القطاع العام غائبة عن صالات “السورية للتجارة”!

لن نستغرب إقدام القطاع الخاص على رفع الأسعار لجميع السلع التي ينتجها أو يستوردها، فهو يفعلها دائما وبخاصة في عز الأزمات.. فعلها على مدى سنوات الحرب على سورية، ولم يتردد بفعلها في زمن وباء كورونا الذي يستهدف البشرية!

لكننا نستغرب أن تقوم الجهة المسؤولة عن انسياب السلع وتوفرها في الأسواق، أي وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك، بالدفاع عن رفع الأسعار بدلا من التصدي لحماية المستهلك من جشع التجار. ونستغرب أكثر غياب منتجات القطاع العام عن صالات “السورية للتجارة” على مدى السنوات الماضية.. ربما لأن مديري الشركات العامة غير مخوّلين بدفع العمولات لمستثمري صالات “السورية للتجارة” مثلما يفعل القطاع الخاص.

من يحدد تكاليف السلع

وكما يعرف الجميع، يلجأ المستوردون إلى رفع تكاليف مستورداتهم بهدف تسعيرها بقيم عالية قبل طرحها في الأسواق، وتقوم الجهات المعنية في وزارة التجارة الداخلية بالتصديق عليها دون أية مناقشة.. حتى بإمكانية وجود تلاعب فيها!!

يقول رئيس قسم الاقتصاد في جامعة دمشق الدكتور عدنان سليمان: “إن التكاليف التي يقدمها أغلب التجار والمستوردين لوزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك، بقصد إصدار نشرة الأسعار، تحمل زيادة تتجاوز نسبتها 50% عن التكاليف الفعلية، ثم تقوم الوزارة بإضافة هامش ربح إليها يتجاوز 15% عند التسعير”.

وبغضّ النظر عن دقة هذه النسبة – زيادة أو نقصانا – فإن السؤال: ألا توجد آلية للتحقق من التكاليف الفعلية للمستوردات؟

الآلية المتاحة هي بيانات التخليص الجمركي، فالمستورد لن يرفع قيم مستورداته خوفا من تسديد رسومها لوزارة المالية، بل غالبا ما يقوم بتخفيضها لدفع رسوم أقل، والسؤال: لماذا لا يتم التنسيق بين وزارتي المالية والتجارة الداخلية لاعتماد بيانات التخليص الجمركي في حساب تكاليف المستوردات عند تسعيرها؟

المستورد الذي يتلاعب بالبيان الجمركى سيضطر إلى الإفصاح عن التكاليف الحقيقية لمستورداته عندما يضطر لتسعيرها وفق بياناته “الكاذبة”، وبالتالي تستفيد المالية والمستهلك.. ترى، لماذا لا تعتمد وزارة التجارة الداخلية البيانات الجمركية للمستوردين لو كانت حريصة فعلا على حماية المستهلك من جشع التجار؟

ما يجري فعليا أن التجار يفرضون على وزارة التجارة الداخلية أسعارهم، ويدفعونها لشرعنتها بنشرات رسمية، والمهزلة أن التجار لا يتقيدون بهذه النشرات ولو لبضع ساعات!

 غياب مريب

ولعل ما يشجع التجار على رفع الأسعار وفق بيانات تكاليف كاذبة أن “السورية للتجارة” هي المسوّق الأكبر لمستورداتهم ولمنتجاتهم، إلى حد يمكن فيها القول “إن صالات بيع التدخل الإيجابي تعمل أجيرة لدى القطاع الخاص”.

وهذا ليس بغريب عندما تعتمد وزارة التجارة الداخلية أسلوب استثمار صالاتها من قبل قلة محظوظة من “المتنفذين” الذين يشفطون يوميا الملايين من الأرباح التي يجب أن تكون من نصيب الوزارة لا المستثمرين.

وفي ظل هذا الواقع، ليس مستغربا أن تغيب منتجات القطاع العام عن صالات “السورية للتجارة” وكأنّ لا وجود لشركات حكومية تنتج تشكيلة واسعة من السلع الغذائية والتموينية.. أليس هذا مريبا؟

والأغرب أن لا نسمع احتجاجا من وزارة الصناعة عن تغييب منتجاتها في صالات “السورية للتجارة”.

لقد أعلن وزير الصناعة مؤخرا أن الوزارة لم تقم برفع سعر أي منتج غذائي في شركاتها، لكن السيد الوزير لم يُخبرنا أسباب عدم مطالبته لوزارة التجارة الداخلية بتسويق منتجات القطاع في صالات “السورية للتجارة”.

ومن الجميل جدا أن يعلن وزير الصناعة أن “الوزارة تضع كافة إمكانياتها لتأمين المستلزمات الغذائية لخدمة المواطنين، وبأن شركات المؤسسة العامة للصناعات الغذائية، من كونسروة، وألبان، وأجبان، وبرغل وبصل، وغيرها من المواد الغذائية، سوف تكون متوفرة لتلبية احتياجات المواطن، وبأفضل الأسعار، وبجودة عالية “، لكن السؤال: أين تباع هذه السلع التي لم ترتفع أسعارها؟

لقد حل رئيس الحكومة هذه المعضلة بتكليف وزارة الصناعة “بيع كامل إنتاج منشآتها الغذائية للمؤسسة السورية للتجارة، لتوفيرها للمواطنين، في صالات المؤسسة المنتشرة في كافة المحافظات، بأسعار مناسبة”، لكن المريب أن منتجات القطاع العام لا تزال مغيّبة عن صالات “السورية للتجارة” حتى الآن.

الأسباب معروفة.. فأين العلاج؟

ومنذ أسبوعين والفريق الحكومي شبه مستنفر لتخفيض الأسعار، أو لجم ارتفاعها يوما بعد يوم على الأقل، ومع ذلك لم يلمس المواطن من نتائج سوى المزيد من الارتفاعات.

وللإنصاف، نقول بأن الفريق الحكومي نجح بتوفير السلع والمواد الأشد طلبا هذه الأيام، ولم تغب مادة واحد منها عن الأسواق، لكنه أخفق حتى تاريخه بلجم التجار عن رفع الأسعار.

وقد كلف الفريق الحكومي وزارة التجارة الداخلية تقديم مذكرة تفصيلية تتضمن تكلفة إنتاج كل مادة وأسباب ارتفاع أسعارها ليصار إلى دراستها خلال جلسة لمجلس الوزراء واتخاذ الإجراءات الصارمة بهذا الخصوص.

حسنا.. الوزارة أعدت المذكرة وأصدرت نشرات تسعيرية متلاحقة كانت ميزتها الأساسية “شرعنة أسعار التجار” بذريعة ارتفاع تكاليف الاستيراد والتخليص والتأمين والنقل.. إلخ، ولعلها المرة الأولى التي لم يتذرع فيها التجار بالدولار لرفع الأسعار.

وبما أن الفريق الحكومي قرر إيقاف تصدير مواد البقوليات والألبان والأجبان والبيض والكلور وماء الجافيل مدة شهر لتوفير حاجة السوق المحلية منها، وتخفيض أسعارها.. فإن السؤال: لماذا لم تنخفض الأسعار؟

وبما أن الفريق الحكومي قرر تقديم المزيد من التسهيلات للمستوردين، فلماذا لم ينعكس هذا الأمر انخفاضا وليس زيادة في الأسعار؟

الملفت أن غرفة تجارة حلب أقدمت على بيع المواد بأسعار تقل 25% عن أسعار سوق الهال، وهذا يؤكد أن أسباب ارتفاع الأسعار معروفة وتتركز في جشع معظم التجار؛ والأمر لا يحتاج إلى مذكرات ولا إلى لجان وإنما إلى تعاون بين الوزارات المعنية بضبط الأسواق والأسعار وإحداث أسواق هال تبيع مباشرة من المنتج إلى المستهلك أي إلغاء حلقات الوساطة والسمسرة.

نشرة خاصة

وعندما نقرأ تصرحا لمدير المؤسسة السورية للتجارة بأن للمؤسسة نشرة أسعار خاصة بها للسلع التي تبيعها في صالاتها، وهي مختلفة عن نشرة الأسعار التي تصدر عن وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك كل 15 يوماً، فهذا يدفعنا للاستنتاج مع زبائن المؤسسة أن الأسعار أرخص من السوق.. فهل هذا الاستنتاج صحيح؟

لكن مدير المؤسسة يصدمنا سريعا بقوله إن “الأسعار التي تحددها المؤسسة للسلع والمواد المباعة في صالاتها مرتبطة بالعرض والطلب، وخاصة لسلع مثل الخضار والفواكه كون الكميات تكون محدودة أحياناً، وبحسب توفرها وسرعة انسيابها من مصادرها، ولذلك فإن تسعيرها يكون بشكل شبه يومي بما يناسب الحركة في الأسواق.

ماذا يعني هذا الكلام؟

يعني – على عكس ما كانت تؤكد عليه المؤسسة سابقا – بأن لديها كميات مخزنة من جهة وبأنها تشتري من المنتج مباشرة من جهة أخرى. وإذا كانت المؤسسة تشتري من أسواق الهال وليس مباشرة من المنتجين، فهي تشتريها بأسعار م!تفعة؟ هذا إذا استبعدنا أي تواطؤ بين مستثمري الصالات وتجار سوق الهال.

وبما أن اتحاد الفلاحين بدأ منذ فترة بتجربة البيع مباشرة من المنتج إلى المستهلك، فهذا يعيدنا إلى السؤال الذي طرحناه أكثر من مرة: أين أسواق الهال الخاصة بالسورية للتجارة؟

حتى أسعار اللحوم في السورية ارتفعت أكثر من 2000 ليرة للكيلو الواحد، ولا تصح هنا المقارنة بمثيلاتها في الأسواق، لأن مسؤولية وزارة التجارة أن تلجم أسعار ارتفاع اللحوم في الأسواق، لا أن تلحق بها تدريجيا.

ماذا عن نسبة الـ 15%؟

ولا يمكن الحديث عن أسعار “السورية للتجارة” دون التطرق لقرار تخصيصها بنسبة 15% من مستوردات القطاع الخاص لتبيعها بأسعار تكلفة استيرادها بسعر دولار المصرف المركزي.

السؤال: هل تتابع وزارة التجارة تنفيذ هذا القرار؟

قبل أن يؤكد مدير “السورية للتجارة” أنه “لا توجد نية لزيادة النسبة، كما لم يصل أي طلب من التجار لإيقاف العمل بها، ولم تسجل المؤسسة أية مخالفة تأخير في استلام الكمية”، فإن السؤال: هل يلتزم التجار بتوريد 15% من مستورداتهم للسورية للتجارة؟

نعم.. التجار توقفوا عن المطالبة بإيقاف العمل بقرار الـ 15% لأنهم نجحوا بتفريغه إلى الحد الشكلي فقط مقارنة بحجم مستورداتهم، سواء من خلال بيانات جمركية “وهمية” أو تهريب كميات من المستوردات أي إدخالها دون بيانات جمركية. ولو أنهم لا يفعلون ذلك لما توقفوا مع غرفة تجارتهم عن المطالبة بإلغاء القرار واستبداله بمبلغ نقدي “مقطوع”.

وبما أن مستثمري صالات “السورية” من القطاع الخاص فإن احتمالية لجوء المستوردين إلى وسائل ناجعة لتعود مخصصات الـ 15% إلى مستودعاتهم “سالمة” بمعظمها.. واردة جدا.

بعض التجار “مجرمون”

الوصف ليس من إبداعنا وإنما أطلقته نقيبة صيادلة سورية في مطلع نيسان الجاري مؤكدة ان “أمور الصيدليات مضبوطة، ونأمل من جميع الجهات التي تسعى وراء الصيادلة أن تتجه إلى مراقبة الطعام والشراب، لأن بعض التجار مجرمون، والغذاء لم يعد خطا أحمر”.

نعم.. الغذاء لم يعد من الخطوط الحمر بعد هذا الارتفاع الجنوني للأسعار. وإذا كان بعض التجار “مجرمين” بحق الناس، فلماذا لا يتدخل معظم التجار الآخرين لمنع تشويه سمعتهم، وبعضهم له أياد بيضاء في مساعدة الناس المحتاجين من خلال مبادرات إنسانية أطلقوها في زمن الكورونا؟

مثلا، غرفة تجارة دمشق تؤكد أن ارتفاع أسعار الكثير من المواد غير مبرر، لكنها لم تتخذ أي إجراءات لإقناع التجار بعدم رفع الأسعار، في حين تدخلت غرفة تجارة حلب وباعت الناس الخضار بأقل من 25% من أسواق الهال!

وليس صحيحا أن سعر المنتج يرتبط بنسبة الاستهلاك وتكلفة أجور نقله العالية من محافظة إلى أخرى، فالتجار لديهم دائما المبررات لرفع الأسعار وخاصة ما يصفونه بالتكاليف “السرية”، ويقصدون بها دائما “الرشوى”.

ولو قارنا الأسعار حاليا بأسعار مثيلاتها “قبل كورونا” لاكتشفنا بسهولة الارتفاع الجنوني لأسعار المنتجات الغذائية الرئيسية بنسب تراوحت بين 50% – 100% على الرغم من أن مصرف سورية المركزي مازال يموّل مستوردات السورية للتجارة كافة، بسعر صرف مدعوم وهو 438 ليرة سورية، في حين يموّل مستوردات التجّار من السلع الأساسية بسعر 704 ليرات؛ وبالتالي – وحسب دراسة لمركز “مداد” – لا مبرر للجهتين في تسعير منتجاتهما وفق سعر الصرف غير الرسمي، مع العلم أن التمويل من المركزي قد يكون جزئياً، إضافة إلى ارتفاع تكاليف الاستيراد، ولكن في الحقيقة هذه الأسباب لم تتغيّر قبل أزمة كورونا ولا بعدها.

وبالمختصر المفيد: لا مبرّر ولا تفسير لهذا الارتفاع غير المنطقي في الأسعار سوى جشع التجار ورغبتهم في استغلال الأزمة لتحقيق أرباح ، ووجود حلقات إضافية من السماسرة والمنتفعين.

أليس ملفتا أن يتنافس القطاع الخاص ووزارة التجارة الداخلية على رفع الأسعار بدلا من المنافسة على تخفيض أسعار السلع الأساسية على الأقل لتخفيف عبء كارثة كورونا عن جميع المواطنين؟!

علي عبود