ثقافةصحيفة البعث

الالتزام في الفن التشكيلي.. ازدواجية وتناقض؟!

يدعي الناقد والفنان أسعد عرابي، المقيم في باريس، أن الحدود غائمة بين الواقعية الاشتراكية من جهة، والالتزام الطبقي “على جانب النضال الإبداعي الفلسطيني” من جهة أخرى، أي أن هناك خلطاً، وأن الالتزام في الفن التشكيلي ليس حكراً على الموقف السياسي، وإنما على الاستمداد الخرافي من اللاوعي الجمعي في الصور والحكايات الشعبية الدارجة، ولعل ما أثار حفيظة بيكاسو هذا الكمون السحري بالذات الذي خفت صوته في الفن الملتزم، وعاد ليشع في تيارات ما بعد الحداثة بعد وفاته، كما يؤكد في جهة أخرى أن الالتزام أصبح منسقاً منذ بداية القرن مع ولادة التيارات العبثية مثل الدادائية في باريس، والدادائية المحدثة في نيويورك، وغيرهما، ويتساءل: لماذا توقفت اللوحة الأوروبية عن فكرة الالتزام السياسي؟ ربما لأن مفهوم الالتزام اختلف لديهم، وظل اجتراراً آلياً مكروراً لدينا، والعديد من المرتبكين فنياً اتكؤوا على سلطتهم الحزبية أو الشللية ليحركوا غرائز العصبية القبلية، وهكذا اختلط الفن بالسياسة، ولم تعد اللوحة شهادة رفض الواقع، أو مأساة شعب، واختلط بالتالي الخطاب الديماغوجي باللغة النوعية للتشكيل، وتحولت اللوحة إلى شهادة حسن سلوك من الفصائل اليسارية، وليست شهادة حسن سلوك تشكيلي نخبوي .

ومن حق الفنان أن يسأل من منصة واقعه الثقافي، والحياة التي يعيش متطلباتها الوجودية، وآمالها التي يسعى بصفته منتجاً لحلم ما يناضل من أجل عشاق كثر، ما يجعل من هذه الأسئلة ضفة ثالثة لحوار مع الناقد الكاتب، ومع أسئلة الالتزام التي يعنيها، حيث بدأ الزج بالجانب الإبداعي الفلسطيني في هذا الارتباك باعتباره نموذجاً إبداعياً أبعد عنه صفته النضالية المرافقة للفعل السياسي والعسكري الفلسطيني طيلة عقود من ثورة هذا الشعب، بحيث لا يمكن الفصل بين السياسي والفنان أو المثقف بهذا الفصل الحاد دون المرور على حالات ثقافية إبداعية فلسطينية كانت جوهرية في العمل السياسي والنضال الفلسطيني دفاعاً عن الهوية والأرض، ونقول بحق إنها كانت متقدمة في معناها على الفعل السياسي الذي أوصل نفسه إلى متاهات من المفاوضات، وأدت بالمثقف إلى عزلة لا تخلو من الإحباط عند البعض، أو الارتهان لمتطلبات السياسي المتحكم بهؤلاء الذين تحولوا إلى موظفين ليس إلا!.

من المؤكد أن اليسار قد أنتج ثقافة متقدمة في جوانب الإبداع التشكيلي والأدبي والفكري، إلا أن شهادات حسن السلوك التي يمنحها لأولئك المبدعين المؤسسين هو نفسه كان بحاجة لها أكثر مما يحتاجها المبدع ذاته، وكل ذلك تحت عباءة التوسع الأفقي التنظيمي، ما جعل رهطاً كبيراً من الانتهازيين المنخرطين في الحياة الحزبية يتبوؤون مركز القرار الثقافي بناء على شهادة حسن السلوك التي يمنحها الحزب لبعض “مثقفيه المرتبكين”، ولو قمنا بجردة حساب لأعمالهم الإبداعية لكانت النتيجة لا تُذكر، أو تساوي الصفر.

وفيما يخص نهاية الالتزام في أوروبا منذ بداية القرن مع ولادة التيارات العبثية وفتنة الناقد باتجاهات ما بعد الحداثة، والاتجاهات التغريبية الأخرى، يمكن القول إن لكل شعب ثقافة روحية تختلف عن شعب آخر، وإن أضحى العالم قرية صغيرة يمكن التجول فيه على شاشة الموبايل، إلا أن الخصوصية الثقافية أضحت أكثر إلحاحاً، ودخلت معتركاً تصادمياً مع الثقافات الأخرى، رغم كل ادعاءات تلاقح الثقافات وأغطيتها السياسية التي تفوح منها روح السيطرة واستلاب الآخر، فلم تعد مقبولة تلك التبريرات لفنون القبح والعبث تحت مسميات الحرية، وحق المبدع في التحرر من وصايا الالتزام، وليس غريباً أن الكثير من المشاريع الثقافية والفنية والترويجية لنوع معين من الفن التشكيلي الذي كان يدار عبر مراكز ثقافية غربية لم يكن تنويرياً أو تحررياً، بقدر ما كان مشبوهاً ومدمراً للذات وللهويات الوطنية، فقد آن الأوان لتتعظوا يا أهل التغريب والتطبيل لأفكار الحرية الزائفة التي تنخر في قوام الفن الأصيل، والملتزم بجوهر الإنسان الساعي للعدل والخير والسلام .

أكسم طلاع