دراساتصحيفة البعث

في ذكراها .. مذابح و إبادة الأرمن عصية على النسيان

 

د. معن منيف سليمان

يشارك العالم المجتمع الأرمني أحزانه في الذكرى السنوية لمذبحة الأرمن أو الإبادة الجماعية للأرمن أو المحرقة الأرمنية التي مازالت ماثلة في الأذهان وعصيّة على النسيان، وهي عمليات قتل متعمّد وممنهج للسكان الأرمن من قبل حكومة تركيا الفتاة في الدولة العثمانية خلال وبعد الحرب العالمية الأولى، وقد تمّ تنفيذ ذلك من خلال المجازر وعمليات الترحيل القسري. ولم تكن مذبحة واحدة، بل مذابح عدّة تبعتها إبادة راح ضحيتها أكثر من مليون ونصف المليون أرمني على يد العثمانيين الذين مازال أحفادهم وحكّامهم حتى اليوم يواجهون تنديداً دولياً وغضباً واسعاً، بسبب هذه المذابح التي سُجّلت كواحدة من أسوأ الجرائم ضدّ الإنسانية، إذ يعدّ المؤرخون ما حدث أوّل عملية إبادة جماعية في القرن العشرين، فيما تتمسّك أنقرة بالتشكيك فيما هو معلن من جانب الأرمن، وتنفى تسمية “الإبادة الجماعية” كمصطلح دقيق لوصف هذه الجرائم.

في الواقع بدأت إبادة الأرمن في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، وكان المسيحيون الأرمن إحدى الجماعات العرقية خلال حكم الإمبراطورية العثمانية. وفي أواخر ثمانينيات القرن التاسع عشر، شكَّل بعض الأرمن منظمات سياسية ساعين إلى مزيد من الحكم الذاتي، ما أثار شكوك الدولة العثمانية حول مدى ولاء الطائفة الأرمنية داخل حدودها. وفي تلك الأثناء، طرح السلطان عبد الحميد فكرة الجامعة الإسلامية للملمة بقايا الولايات التابعة لحكم العثمانيين، وحاول من خلال هذه الفكرة الحصول على تأييد العالم الإسلامي، إضافة إلى مكانة روحية تتيح له من جديد السيطرة على ولايات الدولة العثمانية.

وفي ظلّ هذا الطرح أصبح الأرمن عنصراً مخالفاً للفكرة والتوجه، وبدؤوا في الضغط والمطالبة بإصلاحات في الولايات التي يقيمون ويتركزون فيها، وهي “فان” و”أرضروم” و”بتيليس” و”معمورة العزيز” و”ديار بكر”.

وبسبب تدخل الروس وتزايد مطالبات الأرمن، نشبت الحرب الروسية العثمانية عام 1877، واستمرّت لمدّة عام، وانتهت بهزيمة العثمانيين. وبعدها تمّ توقيع معاهدة سان ستيفانو، وحصل الأرمن لأوّل مرّة في تاريخهم على شرط يقضي بقيام الدولة العثمانية بعمل إصلاحات في الولايات الأرمينية وبإشراف روسي.

لم تنفّذ الدولة العثمانية التزاماتها تجاه الأرمن، واتبع السلطان عبد الحميد سياسة التسويف والمماطلة. بعدها أسّس السلطان عبد الحميد ما عُرف بالفرق الحميدية، وهي فرق أو ميليشيات مسلّحة تضم عدداً من الأكراد المتعصّبين. وبدأ السلطان في تغذية أفكارهم بأن الأرمن “كفّار”، ويشكّلون خطراً على الدولة الإسلامية والجامعة الإسلامية. وهنا بدأت المذبحة الأولى، ووقعت بين تلك الفرق والأرمن فيما بين عامي 1894- 1896، وراح ضحيتها ما بين 100-150 ألفاً. هذه المذبحة سُميت بـ”المذبحة الحميدية” نسبة للسلطان عبد الحميد، وبسببها أطلقت عليه وسائل الإعلام الغربية لقب “السلطان الأحمر” لسفكه الدماء.

وبعد ذلك أُرغم السلطان عبد الحميد على إعلان الدستور عام 1908، بعد ضغوط من حزب “الأحرار العثمانيين”، أعقبه خلع السلطان. وحدثت صراعات بين أنصاره ممن أطلق عليهم “الرجعيون الراديكاليون”، وأعضاء “الأحرار الدستوريون”. وفي خضم تلك الصراعات، وقعت مذبحة الأرمن الثانية عام 1909، وراح ضحيتها نحو 30 ألف مسيحي، معظمهم من الأرمن.

وفي أثناء سنوات الحرب العالمية الأولى (1914-1918) واصلت السلطات العثمانية اضطهادها المنظّم للأرمن وقامت بحملات كبيرة من التهجير القسري لمئات آلاف السكان من قراهم وأراضيهم وإعادة توطينهم في مناطق أخرى من الإمبراطورية، وخاصة في بلاد الشام وسورية، تحت سقف قانون “التهجير”. وفي ذلك الوقت خرجت في تركيا فكرة جديدة لجمع ما تبقى من الدولة، فتمّ اقتراح عمل دولة تركية نقية الدماء والتخلّص من كافة الملل الأخرى وتهجيرها. وأطلقت السلطات كافة المسجونين ممن أطلق عليهم “المتوحشون”، وشكّلت منهم ميليشيات لمرافقة الأرمن المهجرين إلى حلب في سورية. وخلال تلك الرحلة، ارتكبت أفظع الجرائم الإنسانية.

ففي يوم 24 نيسان من عام 1915، اعتقلت السلطات العثمانية، تحت قيادة حكومة “تركيا الفتاة”، ما يقرب من 600 شخص من مثقفي وأعيان المجتمع الأرمني في العاصمة العثمانية القسطنطينية، وقامت بترحيلهم إلى منطقة أنقرة ليلقى معظمهم حتفهم في نهاية المطاف.

وسار الآلاف من الأرمن على أقدامهم في ظروف قاسية، دون طعام أو شراب، إلى حلب. وتسابق المتوحشون من الميليشيات العثمانية إلى بقر بطون الحوامل من النساء والرهان على نوع الأجنة في بطونهم، وقتل من يتوقف منهم عن السير طلباً للراحة. إلى ذلك، ارتكبت مذابح وثقها محامٍ سوري اسمه “فايز الغصين” كان في تلك الأثناء منفياً. وفي طريقه للمنفى شاهد بعينيه تلك الفظائع وجمعها في كتاب له أطلق عليه “المذابح في أرمينيا”، صدر عام 1917، ونشرت قطوف منه صحيفة “المقطّم” المصرية.

وطبقاً للإحصاءات التي أصدرها الأرمن حول أعداد ضحايا هذه المجازر، فإن ما يقرب من 1.5 مليون أرمني قتلوا جراء هذه السياسة القمعية المنظمة قبل سقوط الدولة العثمانية في نهاية الحرب العالمية الأولى. وبحسب المؤرخ والمدرّس بالمعهد الفرنسي للجغرافيا السياسية (الجيوبوليتيكا)، “ريمون كيوركيان”، فإن “الأرمن قد أبيدوا باسم القومية، المرض الذي نخر عظام أوروبا آنذاك، التي كان هدفها تطهير الأمة من العناصر الأجنبية، (الميكروبات) كما كان يطلق عليهم في هذا العهد”.

وتنفيذاً لأوامر الحكومة المركزية في القسطنطينية، قام الضباط العثمانيون وحلفاؤهم بعمليات إطلاق نار واسعة وترحيل بمساعدة مدنيين محليين. قتلت الأجهزة العسكرية والأمنية العثمانية ومساعدوها غالبية الرجال الأرمن في سن القتال، إلى جانب آلاف النساء والأطفال. كما تعرّضت المسيرات المهجّرة للأرمن، التي كانت من الشيوخ والنساء والأطفال الناجين، إلى “هجمات وحشية” من ضباط الإقليم والعصابات البدوية والعصابات الإجرامية والمدنيين، ليلقى مئات الآلاف من الأرمن حتفهم قبل وصولهم إلى المخيمات.

وبحسب المؤرخ “أرنولد توينبي”، فإن الحكومة التركية استخدمت على نحوٍ منهجي الوضع العسكري الطارئ لتفعيل سياسة سكانية على المدى الطويل، تهدف إلى تعزيز العناصر التركية في الأناضول على حساب السكان المسيحيين (أساساً الأرمن، ولكن أيضاً من الآشوريين المسيحيين). ووفق ما نشرته وثائق أرمينية وأمريكية وبريطانية، وفرنسية، فإن الحكومة التركية استهدفت عمداً السكان الأرمن في الأناضول، حيث أصدرت تعليمات من القسطنطينية وتأكدت من تنفيذ تلك التعليمات من خلال عملائها وإداراتها المحلية. وأتت المبادرة والتنسيق من دائرة الحكم مباشرة، ولعلّ أبرزهم طلعت باشا (وزير الداخلية)، وإسماعيل أنور باشا (وزير الحرب)، وبهاء الدين صقر (المدير الميداني للمنظمة الخاصة)، ومحمد ناظم (زعيم التخطيط الديموغرافي).

ومن بين دوافع تلك العملية، وفق “توينبي”، سعي النظام العثماني إلى ترسيخ مكانته وقت الحرب والتمويل لتحويل الأناضول إلى “التتريك”، وذلك بمصادرة أصول الأرمن المقتولين أو المرحّلين. وكان إعادة توزيع ممتلكات الأرمن دافعاً لكثير من الأشخاص العاديين للمشاركة في الهجوم على الأرمن.

ويقول الأرمن إن الآلاف من أسلافهم تعرّضوا للتعذيب والاغتصاب ومصادرة الممتلكات. وسيق كثير منهم لمسافات طويلة عبر الجبال والسهول بلا طعام أو شراب. فكان من لم يُقتل في “المذابح” مات جوعاً أو عطشاً خلال عملية الترحيل إلى الصحراء في سورية.

ويقدّر مؤرخون أن نحو مليوني أرمني كانوا يعيشون في أراضي الدولة العثمانية مع بداية الحرب العالمية الأولى عام 1914. وبحلول عام 1922، انخفض عددهم إلى 400 ألف فقط. ما يؤّكد حدوث “الإبادة الجماعية”. إلا أن الأتراك، ورغم اعتراف تركيا بالإبادة الجماعية في المدّة الواقعة بين 1919-1920، وإلقاء القبض على الجناة من الضباط الأتراك، تراجعت عن ذلك مع ظهور الحركة القومية التركية، التي أصدرت عفواً عامّاً بحق الجناة. ومنذ ذلك الحين، فإن جميع الحكومات التركية المتعاقبة منذ تأسيس الدولة التركية الحديثة على يد مصطفى كمال أتاتورك الملقب بـ”أبو الأتراك”، اعتمدت سياسة الإنكار ورفض الاعتراف بالإبادة الجماعية.

وتنفي الجمهورية التركية، الدولة التي خلفت الدولة العثمانية، وقوع المجازر وترفض تسمية “الإبادة الجماعية” كمصطلح دقيق لوصف هذه الجرائم، وفي السنوات الأخيرة وجهت دعوات متكرّرة لتركيا للاعتراف بالأحداث بأنها “إبادة جماعية”.

وبدءاً من عام 2015، قامت معظم حكومات وبرلمانات دول العالم، مثل دول أمريكا اللاتينية وكندا، وقبرص، ولبنان، والفاتيكان، وروسيا، وكذلك الولايات المتحدة الأمريكية، والبرلمان الأوروبي ومجلس الكنائس العالمي ومنظمة حقوق الإنسان، إلى جانب الأمم المتحدة؛ بالاعتراف بأن الأحداث التي حصلت للأرمن كانت “إبادة جماعية”.

واليوم يسعى الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” إلى تغيير الخريطة الديموغرافية في شمالي سورية من خلال العدوان على الأراضي السورية والقيام بعمليات تطهير عرقي مشابهة لما جرى مع الأرمن مقتدياً بسيرة أسلافه من سلاطين بني عثمان. بهدف تهجير السكان الأصليين واستبدالهم بالمتشدّدين المعادين للدولة السورية والموالين لنظامه، وتنفّذ هذه السياسة بالقتل والقمع وانتهاك حقوق الإنسان، التي نجم عنها نزوح جماعي للسكان الأصليين، مرتكباً أبشع الجرائم بحق الإنسانية، ومستخدماً ذرائع كاذبة كالتهديد الكردي لأمنه القومي، في حين يراه الجميع يستخدم مقاتلين إرهابيين لتنفيذ مطامعه وأهدافه في إحياء الإمبراطورية العثمانية البائدة.