ثقافةصحيفة البعث

صرخة في وجه قبح العالم!!

في ضوء ما يعيشه العالم من حالات هلع وخوف وقلق جراء تفشي وباء كورونا، وما خلّفه من إصابات وموات بين البشر، إضافة لإغلاق المدن والبلدان والعواصم الكبرى وإفراغ المعامل والشركات والمصانع من عمالها، إضافة إلى عزل المدن عن بعضها وإغلاق الحدود كل الحدود بين الدول وأيضاً ما فرض من حجر وحظر على جميع سكان الأرض أن الزموا بيوتكم.. وباء خطير جداً أخال أنه سيساهم في وضع خارطة عالم جديد بطريقة جديدة ومفردات مغايرة أمام السقوط المريع لكل السياسات والتكتلات الاقتصادية العالمية والتحالفات السياسية والعسكرية.. وباء يتهدد العالم وأمنا الأرض ..

هذا الذي يحدث أعادني إلى كتاب يبدو أن صاحبه كان يعيش هذا القلق المريع تجاه ما قد يتهدد الكوكب الجميل (الأرض) إنه الروائي العالمي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز الذي عبّر في خطابه الثامن والمعنون بـ كارثة ديموقليس الذي ألقاه في اجتماع القمة الثانية لمجموعة الستة في المكسيك عام 1986، والمتضمن في الكتاب المعنون بـ (لم آتِ لألقي خطاباً) الصادر عن وزارة الثقافة- الهيئة العامة للكتاب لعام 2011 ترجمة صالح علماني بالقول: منذ ظهور الحياة على الأرض كان لابدَّ من مرور ثلاثمائة وثمانين مليون سنة كي تتعلّم الفراشة الطيران، وكان لابدّ من مئة وثمانين مليون سنة أخرى كي تتقن الطبيعة صنع وردة دون أن يكون لها هدف آخر سوى الجمال، وكان لابدّ من أربعة عصور جيولوجية كي تتمكن الكائنات البشرية، خلافاً لجدّنا قرد بيتكانتروب من الغناء خيراً من العصافير، ومن الموت حبّاً، ومن غير المشرّف للعبقرية البشرية في العصر الذهبي للعلم، أن تتصوّر أنها عملية مكلفة وهائلة، تطلّب إنجازها ملايين السنيين، يمكن لها أن ترجع إلى العدم الذي جاءت منه، بمجرد الضغط على زر.. نعم هكذا عبّر وحذّر من الخطر النووي الذي يجتاح العالم كطوفانٍ مميت، داعياً العالم أن يعي خطورة ذلك قبل فوات الأوان، والعمل بكل الطاقات لتجنيب الأرض هول كارثة كونية ما، حذّر آملاً في تحقيق السلام والأمن، وجعل الحياة أفضل الحيوات الممكنة .

(لم آتِ لألقي خطاباً) كتاب في غاية الأهمية، إذ لا يقلّ حضوراً وقدرة على امتلاك المتلقي من أي عمل روائي له، كتاب يضم مجموعة خطابات له قدّمها على منبر الحياة، خطاباتٍ عكست تطور وعيه في السعي جاهداً لامتلاك أدوات فعله الإبداعي، فما بين خطابه الأول (أكاديمية الواجب) عام 1944 والذي لم يكن يتجاوز السابعة عشرة من عمره آنذاك وخطابه الأخير (روح مفتوحة لتلقي رسائل بالقشتالية) عام 2007، وهو في الثمانين من عمره وما بينهما مراحل هامة وكبيرة وخطيرة خبرها ماركيز وخبرته فكلل بالنجاح والحب والتكريم، خطابات الكتاب كلها جديرة بالوقوف أمامها ومطولاً وقفة نقدية تأملية، خصوصاً أحاديثه الشيّقة عمّن يحبّ ويصادق، فنلاحظ ماركيز كيف يطيّر روحه ويحوّلها إلى أسراب فراش من حيث لا يدري  يطير متجهاً إلى وهج المحبة الجميل المغري جداً بالموت وبالانعتاق .

ما يمكنني الحديث به وعنه في هذه العجالة، أو هذا الحيّز المكاني الضيق هو فقط خطابه الثامن (كارثة ديمو قليس) والتي يحذر بها بكل ما يملك من حياة من خطر وقوع كارثة كونية تهدد العالم بالفناء، كارثة قد تقع بأية لحظة لتمحو كل أثر للحياة على الأرض، لافتاً كيف نكدّس المليارات من الدولارات في سبيل امتلاك وتطوير أدوات القتل، بينما نبخل من جهة أخرى على تأمين لقاحات وعقاقير طبية لأنقى مخلوقات الله.. ملايين الأطفال يموتون بأمراض الملاريا و.. إالخ .

خطابٌ هام للغاية يتوجب على العالم كل العالم إعادة تناوله من جديد وبشكل دائم ليعوا خطورة ما نحن عليه من إمعان في خطواتنا نحو الموات، خطاب ألقاه في افتتاح اجتماع مجموعة دول الست: الأرجنتين، المكسيك، تنزانيا، الهند، السويد، وبحضور رؤساء الدول الأعضاء، طالب من خلاله بضرورة الإسراع في إحلال السلام ونزع السلاح، خطاب عكس من خلاله تخوف وقلق الفكر الإنساني والوعي المعرفي الثقافي من تفشي ظاهرة التسلح على حساب إنسانية الإنسان مدعماً خطابه بالأرقام في مجالي الصحة والتربية والتعليم ونذكر على سبيل المثال ما أورده في مجال الصحة قائلاً: بكلفة 10 حاملات طائرات من نوع (نيميتز)، من الحاملات الخمس عشرة التي ستضعها الولايات المتحدة قبل عام 2000 يمكن تحقيق برنامج وقائي يحمي أكثر من مليار شخص من مرض الملاريا، ويحول دون موت أكثر من أربعة عشر مليون طفل في أفريقيا وحدها .

لنتمعن في هذه الأرقام المخيفة، والتي لا تكلّف الإنسان إلاّ العودة وبمنسوب أخلاقي بسيط إلى ضرورات وجوده الكوني بصفته العقلية والمعرفية من جهة، وبصفته خليفة الله على الأرض من جهة أخرى، ويتخلى ولو قليلاً عن ضلالته وتجبره ونزوعه نحو حيوانيته في اختراع وابتداع كل صنوف القتل والتخريب والدمار. أما في مجال التعليم فيورد: بقيمة غواصتين ذريتين نوع (تريدنت) التي تخطط حكومة الولايات المتحدة الحالية لصنع خمس وعشرين منها أو بعدد غواصات (تيفون) التي يبنيها (الاتحاد السوفيتي) يمكن لنا أن نواجه شبح الأمية في العالم، وصرف ما يلزم لإعداد المعلمين وتأهيلهم وبناء المدارس، وكل هذا لايكلف تغطيته صنع بعض صواريخ (تريدنت 2) ويرى ماركيز أن المكان الطبيعي لهؤلاء العلماء ليس هناك وإنما هنا بيننا على هذه المائدة وتحريرهم واجب لابد منه كي يساعدوننا في مجالات التعليم والعدالة، وخلق الشيء الوحيد القادر على إنقاذنا من البربرية ألا وهو ثقافة السلام .

كلمة ماركيز هذه ما هي إلا صرخة مدويّة في وجه القبح والعداء للجمال، لله، للحياة، للحب.

عباس حيروقة

Hiroka72@gmail.com