ثقافةصحيفة البعث

أبولينير.. الرومانسي الثائر

نصف دمه بولوني ونصف دمه الآخر ربما يكون إيطالياً أو فرنسياً، جاء إلى الحياة في مدينة روما عام 1880 وعند عمادته مُنح اسم ويليم أبولينير، أما عن هوية والده، فقد بقيت السرية تلفها والشكوك تحوم حولها، فلعله أحد قساوسة روما؟ أو ربما أسقف موناكو الذي تكفل بتعليمه وأخيه في الوقت الذي كانت فيه أمهما اللاهية مفتونة بلعب القمار، وهناك من يرجح أن يكون أمير موناكو كما أشيع، عندما لوحظ أن أبولينير يحظى برعاية فائقة واحترام نادر في موناكو، لذا يمكن القول إنه ما من أصالة في هذا الشاعر، إلا تلك التي خلقها بنتاجه الأدبي والفني.

وكعادة شعراء ذاك الزمان، سيكون التجوال بين المدن وعبور الحدود واحداً من أشكال الحياة التي يحيونها، وهذا ما كان من أمر شاعرنا، الذي بدأ حياته في التجوال والسفر، هائماً على قلبه في ألمانيا التي بقي فيها لمدة سنة واحدة، أثرت أعمق التأثير في حياته العاطفية، وبالتالي حساسيته الشعرية، عندما أحبّ للمرة الأولى في حياته فتاة إنجليزية تُدعى آنى، وهذا الحب ترك في نفسه آثاراً بليغة بعد أن سافرت حبيبته إلى بريطانيا فتبعها، لكنها عادت وهاجرت إلى أمريكا، وكم حزّ ذلك في نفسه، ليحيا بعدها حياة تشرد وصعلكة طيلة ثلاثة أعوام خصيبة بما جادت به قريحته من الأخيلة والموضوعات المبتكرة، لكن آنى لن تكون حبه الوحيد، فقد أحب من بعدها عدة نساء أطللن من قصائده، منهن من خرجت بفرح من بين تلك الحروف، ومنهن من كان لها وجه الأسى، إلا أن هذه وتلك تركن أثرهن الجلي في نتاجه الشعري، وفي هذا ما يدلّ على التسلط العاطفي الذي كابده.

لكن حدثاً واحداً سيكون له عميق الأثر في الأدب الذي تركه، وذلك عندما شارك في الحرب العالمية الأولى، أبولينير لم يكن فرنسياً عندما قامت الحرب، إلا أنه نال الجنسية الفرنسية ليتمكن من التطوع في الجيش، وهذا ما فعله، ليصاب في الحرب برصاصة تركت في جمجمته جرحاً خطيراً، عام  1916، وخضع للعديد من الأعمال الجراحية التي أرهقته وقضمت من سني عمره، فتوفي عام 1918.

ندّد أبولينير بعلم البيان ودعا إلى التحرر في انتقاء الألفاظ، طالباً من الشاعر أن يسيطر على شعره ويأسره كما يأسر صياداً طريدته، فهو من الذين فرقوا بين الشعر والأدب، لأنه لا يرى أي مبرّر لتمازجهما، وكان حينها ودون قصد، قد تنبأ بمستقبل الشعر في ضوء تطوره الفكري الذي صقلته الخبرة والتجربة والممارسة.

حدث هذا في محاضرة ألقاها قبل وفاته بفترة قصيرة عن “الروح الجديدة والشعراء”، المحاضرة التي نشرتها مجلة (ميركير دي فرانس) والتي تمّ اعتبارها بمثابة وصيته الأدبية التي يحدّد فيها كنه هذه الروح الجديدة بشقيها الكلاسيكي والرومانسي، أي أنه كان يرى أن الشعر سيعتمد في نهضته المستقبلية على العقلية النقدية الواعية، والنظرة الشاملة للعالم والروح الإنسانية، والإحساس بالواجب الذي يحدّ من غلو العاطفة، كما سيعتمد من جهة أخرى على طَرق جميع الميادين التي تقدم مادة خصبة للانفعال بالحياة، وعن هذا قال: “إن البحث عن الحقيقة وسبر غورها في مجاليّ الأخلاق والخيال، لهو أهم خصائص هذه الروح الجديدة”.

قرأ الناس أول ديوان شعري لأبولينير وهو في الـ 31 من العمر بعنوان (مصارع الوحوش، أو موكب أورفيه)، ثم كتب العديد من القصائد تحت تأثير الحرب ونشرها عام 1918، وخلال الفترة التي قضاها في السجن، ألّف أجمل وأصدق قصائده (خمور) وهي تبرز بوضوح ما تتميز به قريحته الشعرية من غنى وتنوع، أما أشعاره التي عُثر عليها في أدراجه بعد موته، فقد تمّ نشرها في دواوين عدة، ظهر الأخير منها عام 1952 تحت عنوان (المتربص المكتئب).

يُعتبر غيوم أبولينير في مقدمة الشعراء الذين ناضلوا في سبيل التجديد الشعري أوائل القرن العشرين، وهو من الذين عبروا ببراعة عن مشاعر ودقائق الأدب في القرن الـ 19، ورغم أن أشعاره تظهر فيها أصداء لاتجاهات من سبقه من كبار الشعراء منذ فيون ورونساند وحتى شعراء الحركة الرمزية أواخر القرن الـ 19، لكن شخصيته ظلت متميزة بطابع مبتكر لا جدال في أصالته.

ظلت حركة التوسع في مجال الشعر الغنائي، والتي كانت قد بدأت مع الرومانسيين، تنمو وتتحرك نحو النزوع للتعبير عن الانفعالات الشاعرية بصفاء وتلقائية، وحسب أندريه بيللي، أحد كبار النقاد، فيمكن في حال أردنا أن ننسب شاعرنا إلى إحدى المدارس الأدبية أن نقول مقالة “بيللي”: “إنه آخر كبار الشعراء الرومانسيين”.

لن تمرّ إبداعات أبولينير الشعرية دون أن تترك أثرها البالغ في فرنسا وأوروبا عموماً، خصوصاً قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى، وكان للقاءات التي كان يقيمها مقهى فلور أن جذبت كبار الشعراء والفنانين الذين واكبوا الحركة التي أحدثها شاعرنا، حتى وصفه أحدهم بكونه أمير العقل الحديث، وقائد أوركسترا الأفكار الحديثة.

من بين الإرث الأدبي المهم الذي تركه، لا بد من القول إن المجد الحقيقي لشعرية أبولينير، جاء من ديوانه الشعري (خمور)، والذي يسجل المحاولات الشعرية الرامية إلى تحطيم القيود التي كان الرمزيون قد فرضوها على الشعر، ضمّ هذا الديوان العديد من القصائد الني كتبها بين عامي 1898 و1913، والتي بلغت مبلغاً بديعاً في الصفاء والصدق، لقد كان الشعر بالنسبة له غناء ضرورياً وطبيعياً، شأنه في ذلك شأن الطائر سواء بسواء، ومن هنا يشعر القارئ أن أشعاره تتميز بالتلقائية في التعبير، وسلاسة الوزن الذي يتماشى بيسر مع حركة الحياة نفسها، فيتتبع بإخلاص جميع منحنيات تلك العاطفة.

من ديوان (خمور)، نورد للشاعر بعضاً من قصيدة (أغنية معذب في حبه):

“عند منحنى شارع يحترق بجميع نيران واجهاته

بجروح الضباب الدامي

حيث تنوح الواجهات، صادفتني امرأة تشبه هذا الضباب

كانت بنظرتها التي تنمّ عن حالها وبجرح عنقها العاري

خارجة من حانة

في اللحظة التي تعرفت فيها على زيف الحب نفسه

وداعاً أيها الحب الزائف المختلط بالمرأة التي تبتعد

بتلك التي فقدتها في السنة الماضية ولن أراها من جديد

مات الحب وأنا أرتعد لموته

إني أعبد أصناماً جميلة

وإني وفيّ لهذا الحب كما الكلب لصاحبه واللبلاب للساق

والسكارى الأتقياء للوصايا العشر”.

تمّام علي بركات