ثقافةصحيفة البعث

درامانا في أفق التلقي

مفارقة الدهشة هي ما يمكن أن نستخلصه لدى متابعتنا لأولى الحلقات في ما يُعرف بدراما “البيئة الشامية”، وإذا انتقلنا من التوصيف إلى طقس المتابعة التي قد تفارق ما ألفناه من ثيمات كلاسيكية في ذلك النوع الدرامي الأثير، على مستوى الخطاب الدرامي ومهارة النص في التقاط الفكرة التي تعني الوجدان الجمعي والذاكرة الجمعية، خصوصاً في عملين دالين هما “بروكار” و”سوق الحرير”.

وبمعنى آخر، هذان العملان على سبيل المثال لا الحصر يبشران بتغيير لافت على مستوى ما تركه “ذلك النوع الدرامي” من مواضعات قارة في الوجدان، فيما يخص ليس مفردات ذلك الخطاب الدرامي وإنما القيمة التي ينزع إليها، أي من مثل النظرة إلى المرأة وأدوارها عبر التاريخ، وليس انتهاءً بشخصيات مازالت تمثل في الذاكرة الجمعية ضمير الحكاية، من أمثال الفنان سعد مينه في شخصيته المركبة “الهمشري”، واستئنافاً قيم المعاصرة التي نزعت إليها تلك الأعمال وذهبت إليها دونما هشاشة في الطرح، أو الاكتفاء بالمشهدية والفرجة والاستعراض والحشو الزائد الذي مجته الدراما في صناعتها وفي محاولتها التخفف من استعلاء الشرط الإنتاجي وهيمنة رأس المال، الذي فرض أفكاراً من خارج السياق، أي خارج سياق الحكاية السورية بمعطياتها وتاريخها، ليس بمعنى الوثيقة بل بمعنى الاقتراب من جوهر القضايا التي تمثل مكونات الذاكرة الجمعية السورية.

وانطلاقاً من خطاب الحكاية وتواتر أجزائها ومكوناتها، بما يعضد حبكتها الدرامية المفتوحة على التأويل والاستشراف وجمالية التلقي، يمكن لنا أن نقول – دون تبسيط أو إعجاب مبالغ فيه – أن عملاً لا يحترم عقل متلقيه سيصبح فائضاً، ومن شأنه أن لا يضيف جديداً، ما خلا أعمال بعينها لها تبدياتها وارتساماتها في الوعي بتضافر رؤيتين لافتتين النص ورؤيته الإخراجية، وإذا كان بروكار بهذا السياق يمثل جذباً للمتلقي الذي يتوق إلى هذه الأعمال بحكم أنها باتت تمثل جزءاً من ذاكرته الدرامية والفنية والاجتماعية، فهو في قوس الرهان على منتج درامي أكثر تطيراً مما التبس في هذا النوع من متعاليات وخفة لا تُحتمل في ماضي هذه الأعمال، ما يضعنا على خط أفق مشاهدة جدية تحرر المعنى في ثقافة عملين دراميين لكل منهما إذا جاز القول فرادته وخصوصيته، في زحمة الأطباق الدرامية المتفاوتة دون أن نغفل أن ثمة أعمالاً أخرى من مثل “حارس القدس” الذي جاء كوثيقة درامية في لحظة كثيفة الاشتباك، فالأمر لا ينطوي على محض سيرة ذاتية، بل هي سيرة وطن وسيرة وعي قومي ووطني وإنساني مازلنا بحاجة ماسة إلى تعضيده في وعينا بإبداع نصه الذكي وشخصياته الفاعلة وبمنطوق شخصياته.

ما يجعلنا أكثر قدرة على التفاؤل بدراما النوع، التي تصطفي متلقيها في زحمة ما يُنتج ولا تعبث بعقله ووقته وتبددهما مجاناً، ولعله رهان على ما يستقيم في الذاكرة والتلقي الذي يعيد الاعتبار لصناعة الدراما السورية بوصفها أولاً صناعة ثقيلة، وثانية تجهر بخطابها الثقافي الأكثر قدرة على الإقناع وتحرير معنى الثقافة الدرامية كخطاب وممارسة.

أحمد علي هلال