الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

حطّاب الرحيل

سلوى عباس

سطّر على نسختها من كتابه إهداء يقول: “إلى غجرية الخصر التي مرت بيني وبين نفسي، ولم ترحم رقة القزحية وعصبها البصري، فرفلت فوق أهدابي بثوبها المتموج كليالي العرب في الأندلس، ونظرت إلي بعينين كلون الطين المعتّق بحمرة الشفاه التي تتلو ترانيم الصلاة.. يا لتلكما العينان وعطرهما حين تشمه عيناي.. حين تلثمه وترشفه كفنجان قهوتها الساخنة في صباح أيلول.. عبق الرائحة المنبعث منهما خطِر كحقل ألغامٍ زرعه الاسكندر المقدونيّ في أرضنا ونسي خرائط الدلالات، كلما وطئها قلبي انفجرت إحدى حواري الشام.. لا الياسمين داناه.. ولا النرجس جاراه.. شذاه يضرب كالأعاصير خدود سواحلي الحزينة، فيشردها في قاع البحر لؤلؤاً وجماناً، كأن تقطيره تم على يد ملاك حارس للجنة، لما تكثّف وتعتّق وآن صبه، لم يجد أجمل من عينيك قارورتين لضم لظاه.”

هذه العبارات غيّرت ملامحها وأنبتت فيها حب الحياة، أيقظت في قلبها النشيد الرهيف لأمومة كانت قد أجلتها لأزمان أخرى، فأعلنته للعالم ابن قلبها، ليعيد صياغة روحها في ينابيع الحلم التي تفيض وهي تشع بضوء ينادي الصبا.. بدت وكأنها خلقت من سنا الضوء لا تقاربها الظلال، وكأنها تشكلت من ماء مقطر جُمع في زجاج، فبعض البشر خلقوا ليكونوا هدايا في الحياة، فانظروا حولكم واعثروا على هداياكم وقدّروها كما ينبغي قبل أن تصبح في خزائن الزمن، فليس أجمل من أن تَهب الحياة للإنسان ياسمينة يسند إليها روحه.

****

كان وداعاً متسرعاً لا يليق أبداً بقلبها أو بقلبه.. وداعاً لا يشبه الوداع.. وداعاً مشحوناً بكل شيء عدا حزن الوداع الشفيف.. قد يكون للوقت “العجر” دور في تحويل تلك اللحظات إلى شيء يشبه الانتقال من سيارة أجرة إلى رصيف سريعاً قبل أن تطفأ شارة مرور المشاة، ابتعدتْ وراء الحواجز والمسافات.. ابتعدتْ وراء زحمة الناس والمسافرين وآلاف كثبان الرمال وسحب الغبار لتنفرد مع حزن غريب بدأ ينمو ويتكاثف على جدران قلبها لحظة بعد أخرى، حزن ما عَرِفَته من قبل.. هو خليط فريد من مشاعر متداخلة، كشلة معقدة من خيوط ملونة تبدو بمجملها رمادية غائمة كيوم شتوي جاف ضاعت فيه الظلال، يقتلها فيه البعد، ويسرها غده، وتحيرها روحها المبعثرة في الاتجاهات كلها، فكلما اتكأت عليها فتحت لها أبواب الشقاء وعذابات النأي، وهوت بها إلى حرائق الشوق الذي تجد صعوبة في إيقاف لظاه، حتى حينما تهرب للانشغال بالعمل أو التفكير به فإن صورته تتجلى أمامها، تراه على زجاج النافذة يلوح لها بعينين تلمعان بشوق، تراه في بياض الحلم وتسمع أنفاسه في حفيف شجرتين زرعتا قرب مدخل بيتها.. زرعتا متلاصقتين كراحتين تتصافحان.. تحسه في ملمس الماء، عذباً سخياً، رقيقاً هداراً.. تحسه في نسمة الهواء.. في الندى البراق على حافة كأس.. في كل ما يعطي الحياة معناها ويجعلها فعلاً تستحق أن تعاش.

كتبت إليه هذه الأحاسيس وهي تعرف أنه لن يقرأها، وتعرف أيضاً ما ينتظرها من شقاء في قادمات الأيام، لا تعرف كيف ستتكيف مع غيابه رغم وعوده أنه لن يطول، لم تكن متفائلة كثيراً بوعوده، لكنها بالمقابل كانت تمنّي نفسها بلحظات يأخذها إليها خيالها، لكن فجأة تستيقظ من شرودها وإحساسها بالفقد، وحدها كانت تعرف كم سيضيق صدرها دونه، وكم ستبدو الأيام القادمة مثقلة بالوقت، زمنها موجع يقض الخاصرة، مختنقة برجيع الوجد والهيام بالذكريات، كغصن ناء بالنضوج، أينعت تفاحات عذاباته وضجت باحمرارها الدموي فاختصرت بهاء الحياة فيها ورمدها الرحيل.