ثقافةصحيفة البعث

خطاب الكراهية وقت الحروب

يكثر الكلام وقتَ الحرب والأزمات والمنعطفات الاجتماعيّة الخطيرة عن دور النّخبة المثقّفة في المجتمع. فنانون، أدباء، خطباء مساجد وكنائس وغيرِهم من الرّموز المؤثّرة، في قيادة وتوجيه الوعي الشعبي. طبعاً، لا يجري ذلك بعيداً عن صراع الأيديولوجيا المبطّن أو العلني أحياناً، الذي يعكس موازين القوى المسيطرة وتحالفاتها المرحليّة وأساليبها الاستقطابيّة، ومنهجيّاتها التّعبويّة، ولكن اللّعبة سرعان ما تُفتَضح، حيث دعاة حرب اليوم وذئابها وصقورها الجارحة، هم من سينقلبون إلى دعاة سلم الغد وحملانه وحماماته البريئة، وحلفاء التكتيك الآن، قد يصبحوا أعداء الاستراتيجيا في المستقبل. وبمقدار ما يكون الشّحذ قويّاً بمقدار ما يحقّق خطاب السيطرة الموجّه فعله المأمول. هي السياسة وأحابيلُها الملتوية إذن، تخفي تحت قفّازاتها الزّاهية الألوان مخالبها الخفيّة. وتكشفُها حين الضرورة رويداً رويداً. هنا، لابدّ لنا من الانتباه لخطورة الدّور الذي يمارسه المثقف السّلبي المراوغ، المتبدّل المواقع، الّلاعب على الحبال، الّلاهث وراء مصالحه، الذي يُباع ويشترى، حسب متطلّبات سوق السياسة وبازاراتها الرّخيصة، وضرورة مواجهته بالمثقف الإيجابي العصيّ على الاستقطاب، الباحث عن الحقيقة، المتمتّع باستقلاليّة العقل، الممتلك لأدوات التحليل المنطقي للأحداث. المحافظ على مسافة موضوعيّة تجاه ما يجري حوله، المتعالي على مصلحته الشّخصيّة، خدمة للمصلحة العامة، الواعي لدور الثّقافة التّاريخي في توجيه وتفعيل النهضة المجتمعيّة بما يخدم حركة التّطوّر التصاعديّة التي يُفترض أن تسير عجلتها إلى الأمام، فخدمة قضايا الجماهير وأهدافها السّامية في الحياة الكريمة والحريّة والمساواة العادلة، تكون بعقلنة التوجّهات الانفعاليّة، وضبط الانفعالات الغرائزيّة، وتوجيه دفّة مسارها نحو تحقيق المزيد من المكاسب الإنسانيّة لصالح المجتمع وقواه المتضرّرة عموماً، وبما يحافظ على الهويّة الوطنيّة ويرفدها بكلّ عوامل القوّة والثّبات. كذلك، يجب الانتباه لمسألة هي في غاية الحساسيّة، قد تؤدّي بصاحبها إلى الانزلاق نحو مواقع ملتبسة، غير محسوبة النّتائج. تحت ضغط الظّرف العام الجارف، وضبابيّة شعارات القوى المتصارعة، وتشابك الخيوط، وتعقّد المعطيات، حيث تختلط مفاهيم الوطنيّة بمفاهيم الخيانة في لحظة فارقة من تاريخ الاحتراب، وتجيّر المطالب المحقّة للجماهير لصالح أهداف ضيّقة وفئويّة الاتجاه. وتكثر الاتهامات، والشعارات التّخوينيّة بين الجميع. لذلك لابدّ من فرز الخيوط عن بعضها البعض بدقّة، قبل إطلاق التّهم جزافاً، وإلا فستقع الطامة الكبرى فوق رؤوس الكثيرين ممّن خانتهم الخيارات الصّحيحة، وسرقتهم الشّعارات اللاعقلانيّة. ولنا في تجارب الشّعوب التي سبقتنا خير مثال، ففي ألمانيا مثلاً، قبل الحرب العالمية الأولى، سادتْ النزعة العنصريّة الضيّقة المغلّفة بشعارات وطنيّة برّاقة، تقول بأنّ ألمانيا محقّة في حربها على العالم أجمع. وانساق بعض كبار المثقفين إلى هذا الخطاب الأهوج، ليطفو سريعاً على السطح خطاب الكراهية المروّع، الرّافض لأيّة شراكة مع الآخر. سواء أكان انكليزيا أو فرنسياً أو غيرهم. وتضاءلتْ كلّ الثقافات العالميّة بذهن هؤلاء، أمام ادّعاء علوّ الخصائص الفكرية الألمانية وعظمة الفنّ والإنسان الألماني. وما عاد الفلاسفة يعرفون حكمة أخرى سوى إعلان الحرب. وانضمّ الأطبّاء إلى الجوقة. وكهنة المذاهب والنحل. والتهمتْ العبارة الغبيّة التالية: “من لا يستطيع أن يكره، فلن يستطيع أن يحبّ حقّ المحبّة” الشّارعَ الغوغائي كلَّه. وكثرتْ أصوات المدافعين عن الحرب الوحشيّة، وكأنّ مسّاً من الجنون أصاب الجميع. الذين لم يكن يفصل بين مواقفهم الإنسانية ومواقفهم البناءة في الأمس القريب، وهذه المواقف الموتورة أكثر من أيام قليلة. والمؤسف أنّ أغلب المتحوّلين كانوا بخطاباتهم أناسا شرفاء، مثقّفين وأدباء وفنّانين مشهود لهم بالاتزان والتأثير الإيجابي في أوساطهم، لكنّ عقولهم تبلبلتْ فجأة. وبرز من بين الأسماء شاعر غنائي يهودي ألماني كان حماسه يفوق حماس الألمانيّين أنفسهم، اسمه “أرنست ليسويير” ألّف نشيداً ناريّاً، أسماه “نشيد كراهية انكلترا”. لقد استبق هذا “اليهودي البدين المنبهر القصير بقصيدته الرّاعدة أنموذج “هتلر” ذاته. كما قال الكاتب والمسرحي “ستيفان زفايغ” الشّاهد النّزيه على الحربين العالميّتين،الأولى والثانية. وما كان من القصيدة التّحريضيّة الفقاعيّة إلّا أن انتشرتْ كالنّار في الهشيم. أو كقنبلة سقطتْ في مستودع ذخيرة، كما يقال، ليكافأ صاحبهَا من قبل الإمبراطور نفسه، بوسام النسر الأحمر لحماسه الشّديد. وبدأ القادة  يلقّنونها للجنود في ثكناتهم. والمعّلمون للطّلاب في مدارسهم، وأرباب العمل لعمالهم، حتى غدا خطاب الكراهية مسيطراً على كلّ النفوس. كما لُحنّتْ وأُنشدتْ على المسارح وغدتْ حناجر سبعين مليون ألماني تهدر بها في الصباح والمساء. وأحرز شاعرنا أمجاداً مرحليّة عالية أكثر من أيّ شاعر آخر في تلك الحقبة. ولكن ما إن وضعتْ الحرب أوزارَهَا، وخفّت سكرة العقول، حتى التفتَ الكلّ إلى مصالحه: بدأ التّجار والسّماسرة بعقد صفقاتهم، والسياسيّون بصياغة تحالفاتهم الجديدة، وتفاهماتهم مع أعداء الأمس، وتنكّر الجميع للشّاعر وقصيدته العصماء التي ألهبتْ الجماهير حتى وقت قريب. ووجّهتْ الحراب نحو صدر الشاعر المسكين، مؤجّج خطاب الكراهية، ليحوّل إلى كبشَ فداء. لم تعد الصّحف تطبع قصائده. وانتهى به الأمر مطروداً من ألمانيا التي دعا إلى تمجيدها، ومن قبل هتلر بالذّات، ليموت منسيّاً كمن لم يكن أبداً. ذاك الذي صعد بقوة الدفع الصاروخية لأهواء المرحلة الغوغائيّة. هو نفسه من سقط متحطّماً نحو القاع بقوّة الدّفع ذاتها، بعد أن هدأ الغليان وخفّت الهستريا وانجلى الضباب عن العيون المتعامية، وجفّتْ الشّعارات في الأفواه المزبدة.

أوس أحمد أسعد