الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

فضاء

عبد الكريم النّاعم

قال له محدِّثه، وهو من المسافرين في أقاصي التفقّد، والتأمّل: “أمر شائك أن يظلّ هذا العقل، بما فيه من تساؤلات كبرى في القضايا المصيريّة، للفرد والجماعة، وما يكاد يصل إلى ميناء في تلك السواحل الشاسعة، حتى تهبّ رياح تجعله يشعر أنّه لم يُغادر، إلاّ قليلا، بعيدا عن البدايات التي دفعته لذلك السفار”.

أجابه: “لأنّني أعرف ما تعني، بحكم رفقتنا المديدة في تلك الفضاءات، أظنّ أني أستطيع مقاربة شيء منها، ويبدو لي أنّ رحلة جلجامش لاتزال متوقّدة في أعماق كلّ الذين ضربوا أجنحتهم في تلك المرامي. ومنذ البدء، بدء الأسطورة/ الحقيقة، كان ثمّة عبرة، ولكنْ كما قيل: “ما أكثر العِبر وما أقلّ المعتبرين”.. كلّ المتأمّلين العاقلين يعرفون أنّ الحصول على عُشبة جلجامش أمر غير ممكن، ولكنّ التّمنّي لجوج، نحن في عالم حدوده الموت والحياة وما بينهما، كلّ بحسب مفردات حياته، ذلك هو قانون عالمنا الذي نحن فيه، ولسنا ندري الكثير عن العوالم الأخرى المختلفة، إلاّ ما ورد على لسان الرسُل السماويّين، وبعض الروحانيّين الذين لامسوا، بطريقة ما، بعض تلك العوالم، وفينا مَن قَبِل ذلك وفينا مَن أعرض، وفينا مَن لم تخطر له هذه الأمور على بال، ووجود الدّرجات في هذه العوالم دليل على أنّها بُنية تكوينيّة، وأنّ هذا التّفاوت سيظلّ قائما، وهذا ما يُثير أسئلة كثيرة، ولأنّها تقع في عالم الغيب، فما يُقال آراء واجتهادات، وهي تتعدّد بتعدّد الرؤى والقناعات، ولأنّها بنت ذلك المناخ ستظلّ قائمة ما بقي الإنسان،

تعال لنتوقّف عند الألم والقلق، وهما عنصران محوريّان في الحياة البشريّة، بعضهم يظنّ أنّه يذهب أو يخفّ عند الأغنياء، وما أدري الكثير عن عوالمهم، بيد أني أستطيع الاستقراء، تُرى هل هم سعداء حقّا، وغير متألّمين، وغير قلقين؟!! ثمّة الكثير يؤكّد أنّهم ليسوا كذلك، تعرف وأعرف قصّة الثريّ صاحب البناية الشّاهقة، وهو مصاب بالسكّري،والذي مرّ بعمّال يفطرون الحمّص وقليلا من الزيت، والبصل، فتمنّى أن يكون مثلهم ويستطيع تناول مايتناولون.

بعضهم يقدّر أنّ ما يبتغيه يكمن في الوصول إلى السلطة، لأنّها تجمع بين فرصة الحصول على المال، والنّفوذ الذي لا يُردّ، وأنا أرجّح أنّ صاحب السلطة يعاني من أتعاب مهولة، بحكم مسؤوليّته، وبحكم ما عليه أن يُنجزه، هذا إذا كان وجدانه حيّا، أمّا أصحاب السلطة الذين فرحهم بالسلطة أنّها تؤمّن لهم الوصول إلى كلّ ما يشتهون من لذائذ الحياة فقط، فأولئك (فراعنة/ أبالسة) وليسوا من الإنسانية في شيء.

ثمّة مَن يظنّ أنّ التحلّل من أعباء القلق والألم يتجسّد في الوصول إلى الجنس ساعة يشاء، فهل ذلك حقيقيّ؟!! تشير بعض الدراسات إلى أنّ نسبة الانتحار في البلدان التي تتحقّق فيها حريّة الجنس هي أعلى من غيرها بكثير، وفيها كفاية للعيش الكريم، وهنا لا أريد من أيّ وجه أن ألمّح إلى أنّ مانحن فيه، في البلدان الطّامحة، للنموّ هو أفضل، بل قدّمت وسيلة إيضاح أخرى”

قاطعه: “بإذنك، تمرّ لحظات من الهدوء العميق، والإشراق، فأحسب أنّ كلّ ذرّة فيّ هي مرآة شفيفة لهذا الكون، بسمائه وأرضه”.

قال: “تلك لحظات نادرة، وعلْويّة، راقية وشاعريّة، تنبثّ من عوالم نجهلها، وهي تحمل بعض تعبير عن العوالم التي تأتي منها، ولا أريد التوسّع في ذلك، لأنّ مثل هذا خاصّ بمن عرفه، فثمّة من يعيش العمر المديد ولا تمرّ به نفحة من تلك النّفحات، ولذا سمّاها الصوفيّون “مَواهب”.

قال: “فكيف نُوائم بين كلّ هذا ومسؤوليّة البناء الاجتماعي الذي هو أهمّ حاجات مجتمعنا، لاسيّما بعد هذه المؤامرة الكونيّة على سوريّة؟!!”

أجابه: “لا تَعارُض، كلّ بناء سليم في الذات، هو بناء في العام، بوسعنا أن نتمسّك بقيم الخير والحقّ والجمال، دون أن نقبل بما يجرح، أو يَختزل كرامتنا الإنسانية، وهذا تكليف ربّاني مبثوث فيما بين أيدينا، والعمل الصالح، النّافع، جهاد حقيقيّ لا شُبهة فيه..”.

aaalnaem@gmail.com