دراساتصحيفة البعث

برلين تحت الضغط

مازن المغربي

كانت جائحة الفيروس التاجي المستجد بمثابة زلزال ضرب العالم بقوة، ومن المرجح أن رداته الاهتزازية ستتسبب بإعادة الاصطفاف لتحقيق توازن دولي جديد، تم تنظيم حملة إعلامية ضد الحكومة الصينية تضمنت تلميحات باتهامات تراوحت بين تحميل الصين مسؤولية انتشار الجائحة، وهو أمر لم يستطع أحد تقديم دليل قاطع حوله، والقول بأن الحكومة الصينية لم تنشر كل ما لديها من معلومات حول انتشار الفيروس، وحول احتواء الجائحة بنجاح.

جاء الوباء ليكشف النتائج الخطيرة لسياسة محاربة القطاع الصحي الحكومي في كل البلدان الرأسمالية، وليفضح السياسات الإجرامية التي خصصت على مدى عقود متتالية من السنوات أموالاً هائلة للتسلّح على حساب الموارد التي يفترض أن يتم تخصيصها للتعليم وأنظمة الرعاية الصحية، فعلى سبيل المثال، عند مقارنة فرص العمل الحكومية في فرنسا في عامي 2018 و2019، نجد أن ملاك وزارة الداخلية ارتفع بمقدار 3573، وزاد ملاك الجيش أكثر من 900 فرد، في حين انخفض ملاك وزارة الثقافة 160، والصحة 508، والبيئة 1639، والتربية 1800، وهذا ليس مستغرباً، بل هو سمة ثابتة في سياسات الرئيس ايمانويل ماكرون منذ انتخابه عام 2017 بهدف القضاء على كل الخدمات العامة في مجال التعليم، والرعاية الصحية، والنقل لمصلحة القطاع الخاص.

لم يقتصر الهجوم على الخدمات العامة على فرنسا، بل كان سمة مشتركة لدى معظم حكومات البلدان الغربية، ويدور الحديث في بعض وسائل الإعلام الألمانية حول تمكن الجائحة من الانتشار بهذا الشكل على خلفية تحويل قطاع الرعاية الصحية إلى نشاط يهدف إلى تحقيق الأرباح من خلال خصخصة المستوصفات، وتحديد تسعيرة أجور خدمات لكل حالة صحية، والنقص في أعداد العاملين والمعدات والتجهيزات، الأمر الذي أدى إلى تخريب القطاع الصحي العام.

جاء تخبط أنظمة الرعاية الصحية في التعامل مع جائحة الفيروس التاجي المستجد ليقدم دليلاً جديداً على أن صحة المجتمع لا يمكن أن تترك لحسابات الربح والخسارة، ففي كل بلدان العالم، وقع العبء الأكبر من استراتيجيات التصدي للجائحة على عاتق الخدمات الصحية العامة، وليس هذا بالأمر الجديد، ففي كتاب لها حمل عنوان: (العالم في مواجهة الحمى)، تحدثت الكاتبة لاورا سبيني عن الكيفية التي غيّرت فيها جائحة الأنفلونزا الاسبانية وجه العالم، الأمر الذي دفع الحكومة السوفييتية في تلك الحقبة إلى تأسيس قطاع رعاية صحية مركزي تديره الدولة، مع التشديد على أسبقية الوقاية على العلاج، لأن الصحة العامة، أي صحة المجتمع، لا يجوز إلا أن تتبع سياسات واضحة قائمة على استراتيجيات ملائمة لوضع المجتمع، ومتناسبة مع موارد القطاع الصحي العام، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال تغليب المصلحة المشتركة لأفراد المجتمع على المصلحة الخاصة النفعية للمستثمرين في قطاع الرعاية الصحية، لكن التوجه العام في بلدان الاتحاد الأوروبي خلال السنوات الماضية سار باتجاه مغاير، حيث لم يعد هناك حديث عن خدمات عامة، بل عن خدمات تحقق مصالح اقتصادية عامة تقوم على تحقيق الأرباح المالية في ظل منافسة حرة تحول متلقي الرعاية الصحية إلى مستهلك للخدمات.

ضمن هذا السياق، تعرّض قطاع الرعاية الصحية إلى هجمات منظمة من وسائل الإعلام الكبرى المرتبطة بالطغمة المالية، حيث تكرر الحديث عن وجود أعداد كبيرة من الموظفين الذين يحصلون على رواتب، وعلى إجازات مدفوعة الأجر، وبناء على ذلك، قيل إنه يجب خفض عدد موظفي الدولة إلى أدنى مستوى يكفي لتشغيل مؤسساتها، وتعويض ذلك بعقود مع مؤسسات رعاية صحية خاصة تعتمد على عاملين يقبلون بأسوأ أوضاع العمل، وبرواتب أقل، وضمن هذا السياق، نجد أنه في فرنسا على سبيل المثال هناك خطة حكومية لخفض عدد العاملين في الدولة بمقدار 50 ألفاً مع حلول عام 2022، والمصيبة أن وسائل الإعلام الكبرى تحاول تسويق هذا التراجع الاجتماعي بوصفه تقدماً في إطار انتشار قناعة بأن مهمة الحكومات تنحصر في تقديم تسهيلات للأثرياء.

المهم في الأمر أن واشنطن تصر على استخدام تداعيات الجائحة لتفرض على أتباعها الالتزام الصارم بإملاءاتها، ونظراً لأن إدارة الرئيس ترامب تبنت كالعادة سياسة الهروب إلى الأمام، وإلقاء مسؤولية أية مشكلة تبرز على عاتق طرف خارجي، فقد وقع الخيار هذه المرة على العملاق الصيني لتحميله مسؤولية انتشار الجائحة، إلى حد دفع بالرئيس ترامب لتسمية الفيروس بالفيروس الصيني، وصولاً إلى تعالي أصوات تطالب الحكومة الصينية بدفع تعويضات عن الأضرار التي حلت باقتصاديات الدول الكبرى، صحيح أن الحكومة الصينية تحاول باستمرار عدم الانجرار إلى مجابهة مع واشنطن، لكن الإدارة الأمريكية لا تقبل إلا بالانصياع الكامل، وضمن سياق الحرب الاقتصادية المفتوحة بين واشنطن وبكين، قررت الولايات المتحدة فرض مزيد من العقوبات على الاقتصاد الصيني، وهي تسعى لإلزام برلين بتقييد تعاملها التجاري مع الصين، و”التخلي عن المسار الخاطئ المتمثّل بالتعاون الاقتصادي مع الصين”، والحجة هي أن الصين تمكنت، بطريقة ما، من استيعاب الجائحة وتداعياتها الاقتصادية، وجددت مسارها باتجاه النمو الاقتصادي، في حين لا تبدو في الأفق إمكانية تحسن الوضع الاقتصادي في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، الأمر الذي يبشر بمزيد من الانحدار في نفوذ القوى الغربية، بل ذهب البعض إلى حد القول بأن جائحة كورونا دشنت عصر بروز الصين لتصبح الرقم الأول عالمياً بعد أن ساور قادة البلدان الغربية في البداية وهم أن الجائحة ستعيد الاقتصاد الصيني إلى الوراء.

وتناقلت بعض وسائل الإعلام الغربية أنباء عن نوايا لمطالبة الحكومة الصينية بتعويضات مالية، لكن هذا الأمر يهدد بفتح ملف قديم يتعلق بالتعويضات المستحقة للبلدان التي تعرّضت للنهب من قبل القوى الغربية، وهذا يشمل الصين تحديداً التي سبق أن تعرّضت لحملات إجرامية شاركت فيها فرنسا وبريطانيا خلال ما عرف بحربي الأفيون (الأولى والثانية)، حيث قامت بريطانيا وفرنسا بارتكاب مجازر همجية ضد الشعب الصيني، مع نشر عادة تعاطي الأفيون في البلاد، الأمر الذي تحول إلى كارثة حقيقية لم تتخلص منها الصين إلا في النصف الثاني من القرن العشرين.

وبما أن واشنطن لا تقبل أي اعتراض على سياساتها، فقد بادرت إلى ممارسة أكبر قدر من الضغوطات على برلين لتتراجع عن شراكتها الاقتصادية مع الصين، وهي الشريك التجاري الأهم لألمانيا، حيث كانت الصين على مدى ثلاث سنوات متتالية، من 2015 إلى 2018، الشريك التجاري الأول لألمانيا، وبلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين 200 مليار يورو، كما تمارس الولايات المتحدة ضغوطاً على ألمانيا بهدف إجبار المؤسسات الألمانية على الامتثال للعقوبات المفروضة على إيران، ويأتي قرار الحكومة الألمانية بإدراج حزب الله اللبناني على قائمة المنظمات الإرهابية ضمن إطار محاولة إرضاء واشنطن بتنازلات لا تؤثر على الوضع الاقتصادي الألماني، لكن واشنطن تتبع سياسة “خذ وطالب”، وهي تسعى لعرقلة مشروع السيل الشمالي الثاني الذي يمنح ألمانيا أفضلية تنافسية من خلال الحصول على الغاز المسيل الروسي بأسعار أرخص، الأمر الذي أزعج الولايات المتحدة، والنظام الفاشي في أوكرانيا الذي يخشى خسارة المبالغ الهائلة التي كان يجنيها من مرور الغاز الروسي عبر الأراضي الأوكرانية.