ثقافةصحيفة البعث

تفسير النصوص و تأويلها

محمد راتب الحلاق

التفسير يعني الكشف والإظهار والشرح والتوضيح، كما يجري في دروس النصوص في المراحل الدراسية ما قبل الجامعية، وتفسير النص لا يعدو فهمه من خلال فهم مفرداته وشرح دلالاتها كما ورد في المعاجم، ومما يساعد في تفسير النصوص مضاهاة النص بنصوص معاصرة له أو سابقة عليه، واستبدال ألفاظه الحوشية بألفاظ متداولة مكافئة لها بالدلالة، وهذا يتطلب التمكن من أساليب التعبير التي كانت سائدة في مرحلة إنتاج النص، والتمكن من الأساطير والرموز والأسماء والقصص التي يحيل إليها، والعودة إلى العلاقات الاجتماعية السائدة حين إنتاجه، ومعرفة مكانة منتج النص ،وموقعه الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والمعرفي، وكان أساتذتنا يدرجون ذلك كله تحت عنوان: (أضواء على النص).

أما التأويل فصرف الكلام عن معناه الظاهر القريب إلى معنى يحتمله، أو ترجيح أحد المعاني المحتملة، مع تبرير ذلك الترجيح لغوياً ومعرفياً، وعبر القرائن المؤيدة.

التفسير يعني، ببساطة شديدة، شرح مفردات النص، أما التأويل فالإخبار عن معنى الكلام حسب اجتهاد المتلقي، وفق شروط لغوية ومعرفية وقرائن تعضد هذا الاجتهاد وترجحه.

والتفسير قياس، أما التأويل فاجتهاد، ورأي راجح عند شخص معين في زمن معين، بناء على المعطيات المتوفرة له وقت القراءة، قد يستمر فيه أو يعدله أو يتراجع عنه حسب ما يستجد لديه من معطيات لم تكن متوفرة له من قبل، أو نتيجة التغير في الواقع المتحرك بطبيعته، والتفسير ملزم للجميع بقوة المنطق والحجة العقلية، نقيض التأويل الذي لا يلزم إلا صاحبه ومن يقلده ويقتنع بوجاهة اجتهاده.

القول بأن التأويل اجتهاد يعني أن النصوص التي تقبل الاجتهاد هي النصوص حمالة الأوجه، أما النصوص المحكمة فبحسبها التفسير والرجوع إلى المعاجم إن اقتضى الأمر.

والتأويل محاولة للكشف عن مستويات أعمق من المعنى، عبر عملية (التمعني)، بالاعتماد على الإمكانات الكامنة في النص، وهذا لا يحدث إلا مع النصوص الغنية، والتي تترك فجوات ليملأها المتلقي حسب اجتهاده وثقافته وخبرته، وهذه الفجوات قد تكون مقصودة من قبل منتج النص لأسباب تقتضي ذلك، وقد تكون نتيجة الشغل الفني ومكر اللغة، وهو الأغلب الأعم.

ومن أهم الأسباب التي تدفع منتج النص لترك فجوات في نصه كونه من معارضي السلطات، أياً يكن مجال عمل هذه السلطات أو طبيعتها، أو أنه يعبّر عن علاقات اجتماعية مازالت وليدة لم تنضج بعد، أنه من العارفين والمطلعين على ما لا يعرفه الآخرون، ويخشى من تصدع المجتمع إن هو باح بما يعرف فيلجأ إلى التقية، وقد تكون قوالب اللغة وأساليبها وأنماط تعبيرها من أسباب تلك الفجوات، إلى جانب الصنعة الفنية، وبناء الصور الجديدة والمركبة التي تكون محصنة عادة ضد القراءات الكسولة.

ومن سمات النص القابل للتأويل إلى جانب ما سبق تعاليه عن التفصيلات والجزئيات، واعتماده على الكليات ومجمل القول، والتفرد باستخدام اللغة بصورة شخصية أصيلة، وهذا ما لا تعرفه النصوص المحكمة الفقيرة، أقول الفقيرة لأنها لا تحوز إلا على معنى وحيد.

ولتوضيح ذلك أعطي القارئ الجملتين الآتيتين:

– مساحة المثلث تساوي (نصف) مساحة المستطيل.

– عيناه عالقتان في نفق كسراج كوخ (نصف متقد)

وأترك للقارئ أن يقارن بين كلمة (نصف) كما وردت في الجملة الأولى، وكما وردت في بيت الشعر، وسيلاحظ كيف أن الجملة الأولى تشكّل قانوناً رياضياً محدداً بدقة (1/2)، في حين انفتحت الجملة الثانية على آفاق واحتمالات كثيرة.