ثقافةصحيفة البعث

الدراما السورية.. بوادر أزمة نص أم إنتاج؟

مرت الدراما السورية بمرحلة نستطيع أن نقول عنها إنها ذهبية تربعت فيها على عرش الدراما التلفزيونية العربية بجدارة، كان صناع هذا الفن يتنافسون خلالها على تقديم الأفضل، تحدوهم غيرتهم وحرصهم على إثبات الوجود، والظهور بصورة المبدع المجدد لاكتساب سمعة تفتح لهم أبواب السوق العربي من جهة، وتجنبهم وخز أقلام النقاد، وغمز منافسيهم من جهة ثانية.

لكن هذا العصر الذي لم يدم طويلاً شرع بالتلاشي شيئاً فشيئاً لأسباب عديدة، أعتقد أن إغراء الأنا المتضخمة للفنانين والربح السريع للمنتجين هو أحد أهمها، فالوضع المادي الوثير الذي تأمن لجيل الفورة الدرامية حدا بالكثير منهم للاستسهال والغرور في التجسيد والأداء الخلاق، ما انعكس سلباً على سوية الإنتاج عموماً، وهذا ما تجلى بصورة واضحة أكثر من ذي قبل في الموسم الرمضاني الحالي الذي اتسمت نصوصه بالتواضع فكرياً وبنائياً، والاشتغال المتواضع عليها، ومن المعلوم بالنسبة للمهتمين بهذا الشأن أن النص الهزيل يفرض على المخرج والممثل عبئاً مضاعفاً لتعويض نقاط الضعف، لكننا في بعض أعمال هذا الموسم لا نجد ما يرمم هزالة النص، لا في الإخراج، ولا في التمثيل، فمن يشاهد مسلسل “يوماً ما” بمنظار النقد والتشريح الممنهج، مثلاً، لابد أن يكتشف مستوى الاستخفاف والتجنّي على عقل المشاهد وتفكيره، سواء في الفكرة المدماكية للحبكة الرئيسية، أو الأفكار الثانوية الداعمة، أو طريقة تجسيدها.

فتاة صغيرة تضيع من أبويها، تسرقها غجرية، تأخذها لتعيش معها في خيام الغجر، تصبح بعد عشرين سنة قضتها منعزلة عن التطور الحضاري، ذات قدرات ومدارك خارقة، وثقافة عالية تخوّلها شفاء فتاة من الشلل، والعمل مستشارة روحية لدى رجل عراقي لديه إذاعة يفترض به صاحب فهم وثقافة تخوّله عدم الأخذ بالتنجيم ومعرفة الطالع بهذه البساطة، ثم تصبح مقدمة برنامج في الإذاعة يرافقها غجري يتم تغيير مظهره الخارجي ليرافق “غجريته” المحبوبة، لتتعرف هناك على والدها الذي عرفته من اللقاء الأول، لكنها لم تبح له بهويتها لأسباب تفتقر لمسوغ مقنع سوى زيادة المساحة الدرامية لتناسب عدد أيام الشهر الكريم، وهكذا يحاول كاتب النص البحث عن عناصر التشويق دون أن يوفق في تركيبها ضمن السرد المتسلسل للأحداث وتطورها الدرامي، فالنص لا يخرج عن كونه نسخة مصغرة عن مسلسل مكسيكي هزيل يفتقد للبنى الأساسية لأية حكاية، خاصة بنية التوتر، والفضول، والمفاجأة، بسبب عدم مشابهته السياق المنطقي الواقعي، وملاءمته بعض ملامحه المعاشة.

وفي مسلسل “بروكار” هناك محاولة للرد على مسلسل باب الحارة الشهير، فيما تعلّق بنظرته السوداوية للمرأة، ليقدمها هنا متحررة إلى حد ما من سطوة الرجل والتبعية له، وذات كينونة فاعلة في المجتمع، لكن المسلسل لا يأتي بجديد على صعيد الفكرة الجوهرية والمفردات الدرامية، فهو يجتر المفردات ذاتها التي طرحتها دراما البيئة الشامية منذ أكثر من عشر سنوات مثل البطل الشعبي، والعوايني، وتناحر سكان الحارات المتجاورة، والحكواتي، والفرنساوي، وغيرها من مفردات ممجوجة ومكررة لحد التخمة.

لا يمكن استثناء مسلسل “مقابلة مع السيد آدم” من إشكالية أزمة النص رغم حصوله على نسبة مشاهدة عالية، على ذمة وسائل التواصل الاجتماعي، أو اتكائه على ممثلين قادرين على حمل أي نص، وتذليل نقاط الخلل فيه، ولا يمكن النظر إليه كحالة مجددة ومبتكرة في الموسم إذا أخذنا بعين الاعتبار الاقتباس الضمني للفكرة عن أفلام “الاكشن” الأمريكية، والقصص البوليسية التي تناولتها السينما الهوليودية والعربية عشرات المرات عن بطل خارق ينتقم من قاتل لأحد المقربين منه، روحياً وعاطفياً، فيقوم بقتل كل من شارك بالجريمة ليحقق عدالته التي يراها أجدى من عدالة النص القانوني.

صحيح أن نزعة الانتقام من طبيعة النفس البشرية، ولا تفرق بين إنسان استثنائي واع وآخر عادي غير منضبط، ولكن أن نختار شخصية طبيب يعمل في الطب الشرعي وأستاذ جامعي لتحويله إلى شخص غير منضبط يسعى للانتقام من قتلة ابنته بنفسه بدلاً من مساعدة المحقق في الوصول إليهم، فيه شيء ينافي المنطق والواقع، غايته الأساسية تحقيق الإثارة والتشويق بطريقة الفذلكة الدرامية بدلاً من المحاكاة الواقعية.

بالمجمل إنتاج هذا العام ينأى بنفسه عن معاناة المجتمع المتخم بالهموم والأوجاع والتحديات الراهنة التي تثقل كاهله، وتفر نحو قوالب جاهزة، سواء تاريخية متخيلة، أو عبثية جوفاء يمثلها مسلسل هواجس عابرة المصنف كوميديا، أو حركات بنات، وأحلى الأيام، وكأن المتلقي على امتداد الوطن العربي يعيش أحسن حالاته، ولذلك نرى أن الاستسهال في صناعة الدراما السورية وابتعادها عن هموم الإنسان الراهنة، بات يهدد مسيرتها ومستقبلها، ولا يقتصر ذلك على النص فقط، بل يتعداه إلى الإخراج واختيار مواقع التصوير، حيث يغلب عليها حالياً الميل نحو التقوقع في الأماكن المغلقة والاستوديوهات المصنعة بدلاً من توظيف الفضاءات المفتوحة في الحارات والقرى والشوارع، والطبيعة المتنوعة  كـ “لوكيشن” لأغلب الأعمال الدرامية، لاسيما أنها كانت الميزة التي شكّلت أحد أهم عوامل نجاحها وانتشارها سابقاً، تلك التجربة الصعبة والجريئة التي حاول معظم منتجي الدراما التلفزيونية العربية الاقتداء بها بعد أن غدت مدرسة فاعلة ومؤثرة في المشهد الفني العربي.

آصف إبراهيم