ثقافةصحيفة البعث

ليس أدب أطفال وكفى.. استلهامُ لوك وداروين مثالاً!

قد يظن كثيرون أن كلاسيكيات أدب الأطفال الغربي من القصص والروايات الشهيرة منذ القرن السابع عشر مروراً بالقرنين الثامن عشر والتاسع عشر وصولاً إلى القرن العشرين، قد أبدعها كُتّابُها هكذا من فراغٍ لهدف تسلية الأطفال وإمتاعهم وغرس قيمٍ ما في دواخلهم، لكنّ البحث في هذا الأمر يقودنا إلى غير ذلك، فقد أكّدت دراساتٌ عدّةٌ لأدب الأطفال الغربي في مراحله المختلفة حقائقَ كثيرةً تتصل بخلفيّات الكُتّاب أنفسهم المعرفية والاجتماعية والسياسية، وتأثُّرهم بأعمال الأدباء الذين سبقوهم، إضافةً إلى تَبنِّيهم في أدب الأطفال الذي أبدعوه نظرياتٍ وأفكاراً فلسفية وتربوية واجتماعية وسياسية عاصروها أو سبقتهم بقليلٍ لعددٍ من أعلام الغرب في التربية والفلسفة والسياسة والمعرفة عموماً.

جون لوك

على سبيل المثال لما سبق، يخبرنا كتاب “أدب الأطفال من إيسوب إلى هاري بوتر” لـ سيث ليرر، الصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب عام 2010 م، بترجمة للدكتورة ملكة أبيض عن تأثير الفيلسوف والمفكر السياسي جون لوك (1632 – 1704م) في أدب الأطفال الغربي في القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، ولا سيما نظريته التربوية القائمة على أرضيةٍ فلسفيةٍ “مقالة حول الفهم البشريّ” (1690م)، و”بعض الأفكار حول التربية” (1692م)، ومقولته بأن الطفل يُولَدُ صفحةً بيضاء، وأن خزانةَ عقله فارغةٌ، وإنكاره وجود أفكارٍ فطريّة، وتحويله الطفل إلى نتاجِ تربيتِه، ومقولته بأن معرفتنا تبدأ من الجزئيات، ومن ثم تركيزه على جزئيات الخبرة الحسية، وانبهاره بالألعاب، وابتكاره لغةً تصويريةً لشرح ما يملأ العقل، فكلُّ هذه الأفكار وغيرها أثّرت في أعمال كثيرٍ من أدباء الأطفال في تلك الحقبة، وامتدّ هذا التأثير عقوداً كثيرةً، ومن الأعمال التي اتّخذت من أفكار لوك أرضيةً خصبةً لها: كتاب “المربية” (1749م) لـ سارة فيلدنغ، وكتاب “جودي ذات الحذاءين” الذي طُبع للمرّة الأولى عام 1765م ،على يد جون نيوبري، و”ربنسون كروزو” (1719م) لـ دانييل ديفو، و”مغامرات ورقة نقدية” (1770م) لـ توماس بريدج، وغيرها كثير.

تشارلز داروين..

كذلك نطالع في الكتاب نفسه آنف الذكر، عن التأثير العميق الذي أحدثه تشارلز داروين (1809 – 1882م) بنظريته في التطور وكتابَيْهِ “أصل الأنواع” و”أصل الإنسان” في أدب الأطفال في تلك الحقبة، فقد ساعدت أفكاره على تشكيل أدب الأطفال في أواخر القرن التاسع عشر والقرن العشرين سواء من حيث التطور أو التغير الاجتماعي أو نمو الأنواع، ومن الأعمال التي تأثرت بأفكار داورين: رواية “أطفال الماء” (1863م) لـ تشارلز كينغسلي، و”جزيرة الدكتور مورو” (1896م) لـ هـ . جـ . ويلز التي تتضمن أسئلةً حول أصل النوع البشري وأثر العيش خارج الحضارة ومكانة الخيال الأدبي في عالمٍ يسوده التطور والفلسفة الوضعية، وكتاب “ما وراء حمار الوحش” (1955م) لـلدكتور سوس، وكذلك قصص فتيان الغابة المتوحشين التي ملأت الخيال الأدبي والعلمي للأوروبّيين في نهاية القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر، ومنها “كتاب الأدغال” لـ روديارد كبلنغ الذي يقابل كتابَ “أصل الإنسان” لـ داروين، والذي بدأه بقصة “إخوة موغلي” كما لو أنّهُ يطرح سؤالاً عن العلاقة بين الأنواع والغابة، كما أنّ كتاب “قصصٌ حدثتْ هكذا” لـ كبلنغ أيضاً يُقابِلُ كتابَ “أصل الأنواع” لـ داورين.

لا بُدّ من التَّنبُّه!

إنّ أمثال هذه الحقائق التي تضعنا في صورتها بعض الدراسات والبحوث في أدب الأطفال الغربي تدفعنا أولاً إلى إعادة النظر في كلاسيكيات أدب الأطفال هذا، التي انتقلت إلينا عبر الترجمات الكثيرة المتتالية التي لا تزال تُطبَع حتى الآن، وعبر أفلام الرسوم المتحركة التي نشأت عليها أجيالٌ عدّة من الأطفال العرب، وأن نكفَّ عن اعتبارها القدوة والأنموذج والمرجع، وأن نحاول التَّنبُّه لخلفيّاتها الفكرية والفلسفية والسياسية، فليست كلّها تصلحُ لأنْ تُوضَعَ بين أيدي أطفالنا، وإن وُضِعَتْ فلا بد من توعية الأطفال ووضعهم في صورة ما تقوم عليه من أفكارٍ وأهداف.

ماذا عن أدب الأطفال العربي؟!

من جهةٍ أُخرى، تدفعنا تلك الحقائق إلى إعادة النظر في أدب الأطفال العربي وطرحِ كثيرٍ من الأسئلة التي تتعلق به، فهل ثمّة أسسٌ فكريةٌ ونظريةٌ وفلسفيةٌ نابعةٌ من صميم مجتمعاتنا العربية يستندُ إليها هذا الأدب؟ وإن كانت متوافرةً فما هذه الأسس؟ ومَن أصحابُها؟ وإن لم تكن متوافرةً فعلامَ يقومُ هذا الأدب؟ هل ينبع من الفراغ؟ أيعرف إلى أين يتجه أم يسير خبط عشواء؟ ألا يزال أدب الأطفال العربي عبارةً عن حلقاتٍ متتاليةٍ من تقليد أدب الأطفال الغربي في مراحله المختلفة واستيحائه واستلهامه أم أنه خرج من دائرة التقليد، وبدأ بتكوين ملامح شخصيّةٍ خاصّةٍ به؟ كلُّ هذه الأسئلة وغيرها كثير برسم الدراسات والبحوث النقدية العربيّة في أدب الأطفال العربيّ، التي لا تزال ضيّقةَ المنحى حتى الآن ومُقتصرةً على بعض الأطروحات الأكاديميّة في بعض الجامعات العربية، والحقيقة المؤسفة أن أدب الأطفال العربي لا يزال يفتقد إلى التأريخ الوافي والبحث المستقصي والدراسة المستفيضة والتقييم الموضوعي.

قحطان بيرقدار