ثقافةصحيفة البعث

الوقوع في حب الوحش

كيف يمكن لنا أن نسقط يوماً في شراك حب أو تعاطف مع شخصية “الوحش” التي كتبت ونسجت درامياً لتكون شريرة في عمل أدبي وإبداعي ما؟

الجواب: لا يمكن أبداً فعل ذلك، فالذائقة البشرية جُبلت على حب الخير والتعاطف مع حامله، وكره الشر ونبذ المُتخلّق به.

ولكن مهلاً فللرواة المحترفين رأي آخر، وذلك بأن يأتي بين الفينة والأخرى كاتب مبدع هنا، أو رسام لسيناريو قصة، ملم بتفاصيل حرفته هناك، يتقن بطريقة آسرة وضع بذور اللامنطق في ذهنية وعيون المتلقي، فيوقعنا بشك وحيرة من حقيقة شعورنا تجاه هذا الوحش الذي يحمل دور البطولة الشريرة في ثنايا القصة.

هذا الأمر سلبي، و مر بطعم العلقم، وغير قابل للتطبيع مع الروح، مهما تغير لبوس الحكاية، ومهما تفنن أصحابها وصنّاعها في زخرفة صورة الوحش، ولكننا نسردها هاهنا للانتباه إلى أن ما حصل ويحصل وسيظل يحصل من غزو ممنهج للثقافة الموجّه لأطفالنا، إنما يكون منتهجاً مثل هكذا تجميل وتحسينات لقلب موازين الفطرة السليمة التي نريد لأطفالنا النشأة عليها، وإيقاعهم فريسة للشك، وربما في كثير من الأحيان لتبني وجهة نظر الوحش في الحياة.

من الأمثلة الفاعلة والمشهورة التي خلبت لب الكثيرين وأثرت في الوعي الجمعي لجيل من الأطفال:

القرصان جون سيلفر

جزيرة الكنز، المسلسل الكرتوني الياباني الشهير- المأخوذ عن رائعة الاسكتلندي روبرت لويس ستيفنسون- أتقن فيه كاتبا السيناريو اليابانيان (يامازاكي- شينوهارا) نسج شخصية القرصان (جون سيلفر) بطريقة درامية عالية الكعب، ليحمّلاه من الفلسفة العميقة وفهم الحياة والجمل الخلابة ذات الأثر النبيل في وجداننا ما جعله الشخصية الأقوى والأكثر تأثيراً في العمل، فكنا صغاراً وكباراً نقف بجوار بطل القصة الطفل (جيم هوكنز) حائرين من طبيعة مشاعرنا تلك نحو الشرير، ونسأل أنفسنا: أنحن نحب (سيلفر)، أم نكره القرصان الذي يمثّله؟.

كم من جملة قالها أثناء العمل جعلتنا نذهل لقدرته على الغوص عميقاً في وجدان النفس البشرية، وإعطائنا الحلول الناجعة لأوجاع الحياة، ولعل ما زاد التعلّق بألق وسحر تلك الشخصية كان الصوت الآسر للفنان العريق (وحيد جلال) في دبلجة النسخة العربية، لنكتشف في النهايات أن لهذا القرصان قصة خفية منسوجة من ألم وعذاب وفراق تستحق- كما أراد لنا الكاتبان- أن يُنظر لصاحبها بعين أخرى غير عين الحكم المسبق على صفات الآخرين، أذكر أن طفولتنا كلها كانت “متسمرة” أمام مشهد واحد على الشاشة في أيام الثمانينيات والتسعينيات من القرن المنصرم، حين توقفت الصورة الختامية للعمل على رسم وجه (جون سيلفر) الذي شاب شعره، وفي الخلفية صوت (جيم هوكنز) الراوي يقول: هذا هو (جون سيلفر)، هذا هو صديقي (سيلفر)، جميع من يقرأ كلماتي من ذاك الجيل يذكر تماماً أننا بكينا يومها فراق العمل وفراق أبطاله، وعلى رأسهم هذا القرصان ذو الشخصية الآسرة.

الوحش حين يكون محبوباً 

في مثال آخر تبرز رواية /الحسناء والوحش/ المستمدة من قصة الكاتب اللاتيني (لوكيوس أبوليوس) تحت عنوان (كوبيدو والروح)، وهنا بطلة الفيلم (بيل) التي تعني بالفرنسية الجميلة- المولعة بقراءة الروايات والعيش في تفاصيلها وكأنها بطلة القصص كلها- تقع في حب الوحش الذي أسرها في صفقة تبادل معقدة لأجل تحرير والدها من قبضته، ولكنها تكشف لنا وتكتشف بنفسها كم يحمل هذا الوحش في داخله من الصفات النبيلة، ما يجعلها تفضل العيش معه والوقوع في حبه، وتقتنع أن قصر الوحش بات بالنسبة لها جزيرة أمان من وحوش أخرى خارج السياج بلبوس آدمي، وتنقّل بنا كاتب العمل وهو يجعلنا نعيش كل حالات التلوّن من مشاعر متناقضة في سير الحبكة حتى النهاية، ولنكتشف هاهنا أيضاً أن هذا الوحش ما هو إلا أمير نبيل وقع تحت سطوة سحر قديم أحاله إلى وحش بشع لن تنفك لعنته حتى يجد من يحب حقيقته الروحية بعيداً عن شكله القبيح.

الساحرة الجنية “ملافسينت” 

نعم هي تلك الساحرة المشهورة في حكاية الجمال النائم (الأميرة النائمة) التي تلقي تعويذتها السحرية بكل حقد على الرضيعة الصغيرة بنت الملك بأن تصاب بوخزة إبرة النول، وتنام في عيد ميلادها السادس عشر، بعد سنين من الحكاية تغيّر لنا كاتبة السيناريو (ليندا وولفرتون) الحبكة والصياغة، وتأتي لنا بقصة جديدة عن هذه الساحرة الشريرة، وهذه المرة من وجهة نظر الساحرة نفسها، ما قصتها، ما أحلامها، وما هي خيباتها من الناس والبشر حتى نالت بتلك الصفة البطولة المطلقة في الحكاية، وباتت للوحش البطولة المطلقة، والتعاطف والإحساس بأوجاعه ومعاناته حالنا كلنا كمتلقين حين تعرض شركة والت ديزني فيلمه الأخير عن هذه الساحرة الآسرة، شيء ما يتغير في الذوق العام، وفي ثقافة الشعوب ككل، وحين يتسلل إلى قصص أطفالنا وثقافتهم وفنونهم فيجب أن ندق ناقوس الخطر مرة أخرى، وهذه المرة بقوة وبصوت أعلى وأشد حدة من ذي قبل، ثقافة أطفالنا وشبابنا في خطر كبير.. وتتعدد الأمثلة وكلنا نطالع بين الفينة والأخرى أمثلة من هذا القبيل والسياق في الأعمال الفنية والأدبية.

كانت الغاية من طرح الموضوع هي التحريض الإبداعي على عمل شخصيات متقنة الحبكة والنسيج لدرجة تجعلنا نقتنع ونؤمن بل ونحب تلكم الشخصية لقوتها وقدرتها العالية على محاكاة الروح، مع الانتباه لخطورة تجميل صورة الوحش وأفعاله، والشرير وصفاته في ذهنية طفلنا المتلقي، والتأكيد على ألا نجعلها أيضاً ضعيفة لا روح فيها ولا قوة حضور، فالشخصية الشريرة مرآة عاكسة لقوة وعنفوان الشخصية البطلة النبيلة، وكما ذكرنا في مرة سابقة كلما أردت لبطلك علواً في شرف البطولة المرام فعليك أن تجعل من نده وشريكه في العمل يحمل من الصفات والمزايا ما يخلب اللب، ويجعله محط أنظارنا طيلة العمل، وفي ذروة الصراع، ولكن لنحذر أبداً الوقوع في حب الوحش.

رامز حاج حسين