الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

أعواد الريحان..!

حسن حميد

دائماً، أضبط قلبي متلبساً ببكاء عميم، وحزن ثقيل، وأسئلة تعمُّ مثل ضباب مدلهم، وذلك حين أفكر بمصائر هؤلاء الأدباء الكبار الذين ارتحلوا، وهم في ريق العمر، مثل غصون أعدت نفسها لثمار نفيسة في كل موسم، ومثل طيور أمضت ليلها وهي ترتب ما سيفرح به الناس من جهة، وما ستطرب به أرواحها من جهة أخرى.

بوشكين (1799 – 1837) رحل بطلقة غادرة، في مبارزة عبثية، صحيح أنه لفظ أنفاسه القائلة: إن الشرف هو الشرف، ولكن ما كان يعوّل عليه أدبياً، وحين تدركه العقول العارفة، يشكل غصة آبدة. إذ ماذا لو أردفت مؤلفات بوشكين الروائية والقصصية والمسرحية والشعرية بمثيلات لها؟! أما كانت الحياة، وليس الأدب فقط، أكثر غنى وجمالاً، أما كانت الكتابات القشية عرفت الخجل والحياء المعرفي فتكوّرت على نفسها احتجاباً كي لا يرى الناس عيوبها، وكي لا ترى الحياة دمامتها. ماذا لو عاش بوشكين سنوات أخرى تقارب سنوات عمره الذي انطوى أما كنا نرى جوهر الإبداع بأم عيوننا بدلاً من الحديث عنه؟! وماذا لو عاش بوشكين سنوات أخرى تقارب سنوات عمره الذي انطوى، أما كنا عرفنا، من خلال سلوكه المعرفي، الدروب الجليات الجاذبات لأهل المواهب لتصير مواهبهم كتباً ثمينة، لا تعادلها في القيمة والنفاسة جواهر الدنيا كلها، ولتصير مواهبهم إبداعاً جميلاً لا يوازيه في النيافة جمال الغابات والأنهار والمدن؟!

ترى، ونحن نرى ونعي وندرك، ما تركه بوشكين الذي لم يصل عمره الأربعين سنة، من أثر أدبي متجدد في أهميته وتراثه وقيمته، لو أنه عاش سنوات أخرى معمورة بالأدب والفن، فأي الأدراج كان قد بنى، وأي الحقول المعرفية كان قد أبدى، وأي السحر كان قد وافى به البشرية كلها، وأي الدروب كان افترع!

وأبو القاسم الشابي (1909 – 1934)، ابن الجريد التونسي، ابن الصحراء التي عمّرتها الواحات، والأيدي، والعقول الفطنة، والنفوس الكبار.. بالمدارس، وليس في المدارس سوى الكتب والعلوم والقيم، الذي لم يكمل سنوات عمره الثلاثين، بعد أن قدّم فتوحات جلية في الشعر الجميل الذي افترشته التواريخ، ومعالم الصحراء، والثنائيات المتداخلة في نفورها وتجانسها ما بين المدن والأرياف، والقيم الزاهيات!

أبو القاسم الشابي الذي دحم بقصيده أمداء واسعة في أشهر مجلات العرب في حينه، فكان سيداً من أسياد المعرفة الشعرية، ماذا لو عاش سنوات أخرى تقارب سنوات عمره الذي كان، أما كان شكّل قصيده ضفة أخرى موازية لضفة الشعر العربي في الشرق، وقد أضحت قصائده أناشيد للحياة التونسية مرة، وللحياة العربية مرة أخرى.

وبدر شاكر السياب (1926 – 1964) الذي روّى روحه بمياه الرافدين، وأساطير سومر وأكاد، فكتب قصيداً لا يشبه قصيداً آخر، وتوّج قصيده بأسرار لم يعرفها القصيد قبله.. ماذا لو عاش سنوات تقارب سنوات عمره الذي كان، وهو الشاعر الذي لم يزاحمه على مقعده الشعري شاعر على الرغم من كرّ الأيام وترادفها!

وغسان كنفاني (1936 – 1972) الذي غدا نشيداً لمواجهة الظلم والعتمة والرداءة والجهل، ابن الثلاثينيات الذي فكر عن شعب، فكتب ما يبقى لهذا الشعب أمثولة في الأدب والسلوك والتضحية والفداء.. ماذا لو عاش غسان كنفاني سنوات أخرى تماثل سنوات عمره الذي كان؟! أما كانت قيم الفداء اليوم دوحاً، ورصانة الإبداع قلاعاً، والمصداقية صيغةَ عيش؟!

بلى، دائماً كانت أغصان الريحان الطرية العابقة بالروائح الآبدة جمالاً وغنى تتقصف قبل الأوان، فتحزن الروح، ويغتمّ القلب، فقد كان هؤلاء أغصان الريحان الطرية العابقة في الحياة والأدب والفنون.. وأكثر!!

Hasanhamid55@yahoo.com