ثقافةسلايد الجريدةصحيفة البعث

“الكراكي” ذاكرة تؤرخ لبحيرة طبريا

 

يخبرنا د. حسن حميد بأنه عثر على مخطوط الرواية في صندوق جدّه إلياس الشمندوري، وهذا الجدّ عاش في الأزمنة الغابرة، وكان من القرائين والكتبة المعدودين، وهذه الطريقة درج عليها كثير من الكتاب في رواياتهم، لإيهام القارئ بأنه ليس له علاقة بما يكتبونه، وهم طرف محايد، ينقلون الذي وصل إليهم، دون تدخل منهم. ويستخدم المؤلف الاستدركات والهوامش، وهي طريقة استخدمتها القصة والرواية في منتصف السبعينيات إلى منتصف الثمانينيات،  لكنه تفوق باستخدامها في الرواية وبشكل كثيف، بحيث أخذت شكل الرواية بكامله.

أربعون جدّاً تهيبوا من فتح هذا الصندوق لأنهم إذا فتحوه فإنه سيجلب اللعنة للأسرة، وستكون هناك مشاكل واضطرابات لا حصر لها إذا فتح الصندوق، لكن بطل الرواية يكسر القفل، ويجد فيه أشياء تخصّ البيت بالإضافة إلى أوراق ملفوفة، فيه وثائق لشراء الأراضي والبيوت، بالإضافة إلى هذا المخطوط الذي يدفعه إلى الناس كي يروا كيف عاش جدّه في محيط بحيرة طبريا، قرب أجران المياه الكبريتية الساخنة.

والكراكي التي تعيش في بلدة الجدّ إلياس، بنى لها الأهالي الأعشاش الكبيرة الواسعة فوق سطح دورهم، وهي طيور كبيرة الحجم، طويلة الأرجل عالية الرقاب، وملونة الرؤوس والأرجل والأجنحة، تمشي بطمأنينة، تكاد تدخل إلى البيوت “جاءت بالربيع والمطر، تحيط بالبيت كأنها الخزف، تأخذ من طعام الأهالي”.

على خلفية الرواية نجد قصة حبّ بين الولد، الشخصية الرئيسية، وبين ماريا التي هي رمز لفلسطين، ولشعبها وأرضها، ومياهها، وكذلك إلياس الشمندوري، فقد كان يأتي إلى البحيرة وينام إلى جوار أشجارها، وكان يخالط الصيادين، الذين انحنوا له مدهوشين وهم يرونه يمشي فوق سطح الماء كالمسيح تماماً: “كان ضوءأ أو يكاد، كان غيماً شفيفاً خفيفاً أو يكاد.. قالوا إنّه كان يكاثر أسماك البحيرة ويكاثر ما في الدنان من الشراب، ويكاثر خبزهم ويشفي مرضاهم ويبارك صيدهم، وأن بعض الصيادين تركوا البحيرة وأهلهم ورفاقهم وتبعوه”. الولد، الشخصية الرئيسية، اسمه عبد الله، وأمّه تناديه وتدلعه باسم التصغير فتصرخ له “عبودة”، وقد وُلِدَ هزيلاً أصفر، أزق، لا يستطيع فعل شيء، وهو أقرب إلى الموت، تأخذه أمّه إلى الكنيسة كي يشفى بالدعاء له، لكن يوجد بالكنيسة طبيب يعطيه زجاجتان، الأولى فيها زيت السمسم، والثانية فيها زيت حبة البركة السوداء كي تدهن أمّه جسده، وأن يشرب منقوع قشر الرمان، ومنقوع الحلبة والقرفة، فتكتب له الحياة ويرضع، وأمّه تعود إليها عافيتها، ويشرق وجهها بالنضارة من جديد.

طنوس أوّل من قرأ على رأس عبودة، وأوّل من مسح رأسه ووجهه، وأوّل إنسان علمه وابتسم له، فكان يعتبره أباه، وهو من أخذ بيده ليعلّمه الرسم والنحت، وهو الذي جعل عيناه لا تشبعان من المعرفة، علمه سحر الأوتاد المشدودة إلى رقائق الخشب، لتعزف مقطوعات موسيقية، هداه ليقرأ تاريخ الإنسان، وعلّمه أن الإنسان أغنى ثروة والمحبة لا تقاس بالرطل، وإنما تكون بالفعل، وقد دفعه إلى راهبة تدعى “ماريا” أخذته أيضاً إلى عالم القراءة والمعرفة والرسم والنحت والموسيقا، فيمرض بحبّها، وخلال ذلك يتجسد الوصف في علاقات تصل إلى قلوب المحبين.

أبوه له شاربان أشقران، ووجه عريض، شعره طويل، إنّ ضحك ضحك جسده كلّه وضحك النهار، بل ضحكت الدنيا، وحين انحسر ماء البحيرة، مضى إلى الميناء للعمل، ولم يعد، وبعضهم يقول: إن رفاقه قتلوه وأخذوا ماله ودفنوه في قبر يلوذ بشجرة بطم كبيرة، وقد عُرف بقبر القتيل، وقيل إن حمى أصابته في طريقه إلى الميناء، وقد بكى رفاقه عليه ودفنوه بقرب شجرة بطم كبيرة، ورشقوا القبر بماء الكبس وسمّي قبر الغريب، وقيل إنّه أصاب رزقاً كثيراً حسده عليه رفاقه فأحرقوه، وقيل إنّه غادر الميناء في باخرة كبيرة بعد أن أغوته امرأة بيضاء شقراء وطويلة، لكن الأمّ لم يغادرها الأمل وباتت تنتظر عودته كلّ يوم.

يبني د. حسن حميد عالمه الروائي مستفيداً من أساطير المنطقة، وحكاياتها وخرافاتها وتاريخها القديم والحديث، ليصل إلى بحيرة طبريا، فأمّه تروي عن جدّاتها أن مكانها كان مرجة عشب واسعة طافحة بالأزهار والأعشاب، وكانت البحيرة المجاورة لها أوسع وأكثر امتداداً وأشد زرقة مما عليه اليوم، ويمضي ليصف الأشجار والطيور والحيوانات التي تعيش على ضفافها، فقد جاءت صبية واسمها “ريا” وأحبّت، وحال الغياب بينها وبين محبوبها، فهوى جسدها وقل ضوءها، وقال الناس لأهلها بأن يبنوا لها عريشاً وسط مرجة العشب والأزهار وأن تستحم بملح بحر لوط كلّ يوم وتغمر جسدها بمياه الحمة يومياً عند الضحى، وأن تأكل من النباتات المجاورة للبحيرة مدة أربعين يوماً حين ذاك سوف تشفى وتعود إلى الحياة، وقد سأل الناس عن اسم المكان، فقالت صاحباتها: اسمه “طب ريا”.

أمّا تاريخ الرومان، فيقول: إن “طبريانوس” أعطى البحيرة اسمه لأنه أوّل من أمر ببناء بلدة في السفح الجميل، كي يمنع فيضانها، وبنى له قصراً أقام فيه. أساطير وحكايات تدور حول البحيرة، وقصص مثل قصة امرئ القيس هذه نجدها مع حكاية “الزهروري” حارس الأجران، الذي جنّ بفضة الغجرية، فكانا مثل طائرين عاشقين. والمبروك الذي يمشي على الجمر بقدمين حافيتين، والخال العجوز الذي يبحث عن طفل وُلِدَ الآن ليطوبه كاهناً وخالاً من بعده.

الناس الذين يعيشون في بلدة الصبيرات القريبة من البحيرة، كانوا يحبّون حياة الفرح، فالنساء دائماً يهزجن ويغنين ويرقصن حتى في وقت الخبز والعجين، والشبان يغنون ويرقصون وهم يبنون بيوتاً، والليل ساعات للفرح والغناء والرقص والهمسات والوشوشات والتلاقي، هكذا كانت حياتهم إلى أن تفقد “ماريا” ويبحثون عنها في الشام والناصرة والقدس وخالصة وحيفا، وخلال ذلك يصف لنا هذه المدن بكلّ ما فيها، لكن الجنود الشقر يسيطرون على هذه الأمكنة، يقول الولد: “لقد غدوت وحيداً تماماً والجنود الشقر على الجسور، وفي مفارق الطرق، وفي القرى والمدن”، لقد ضاعت ماريا ومات الأب طنوس.

شخصيات كثيرة استطاع د. حسن حميد أن يديرها ببراعة وذكاء، واستخدم كلّ ما قرأه و عرفه عن المنطقة من أساطير وحكايات، ومرويات شفهية، ليقول لنا إنّه مازال يبحث عن ماريا.

* “الكراكي” تأليف د. حسن حميد، صادرة عن وزارة الثقافة 2020، تقع في 220 صفحة من القطع الكبير.

فيصل خرتش