ثقافةصحيفة البعث

“غواية شهرزاد” تبئير الحكاية و مرجعيتها الأثيرة

غواية السرد عبر محكيات متفاوتة في شريطها اللغوي، يأخذنا القاص والأديب أنور رجا إلى فضاءات متخيله الذي يفيض كثافة، سواء على مستوى قوله القصصي المضبوط في مسافته وتوتره وحبكته وبنيته، والمقطر بشعريته، أو على مستوى ثيماته المتعددة في متون قصصه، إذ هي تجهر بالهاجس الإبداعي لتنفتح على تجربة العلاقة مع اللغة ومع مرجعيات الواقع الاجتماعي والفكري، تعضيداً لمنظومة من القيم الجمالية والإنسانية بآن معاً.

بدءاً من العنوان/ الغواية بسلطتها الحاكمة على النصوص تخييلاً وواقعاً ينتجه القاص بوصفه واقعاً جديداً يتعالق مع حكاياته المختارة، فغواية شهرزاد تعيد لنا الوقوف عند سلطة الحكاية عبر مونولوج الراوي والبحث عن حلم في تعويذات وقهقهات الزمن، وحراب عساكر تفتش في كلام عاشقين، شهرزاد بؤرة الحكايات ومرجعيتها الأثيرة، بحثاً عن ديمومتها «ألف عام وعام مرت وستمر ألف أخرى وشهريار وشهرزاد يتبارزان في ليل وفجر المدن»، إذن كيف يلتقط النص تلك الحكايات –الأثيرة- ليطيفها في لاوعي شخصياته، وبتقنيات محسوبة من التداعي والمونولوج والأنسنة والتجاوز، هكذا تتحرك قصصه القصيرة في مساراتها التخيلية والناهضة بمتونها الأكثر قدرة على استدعاء «القارئ في النص» تفيض بشعريتها العالية دون أن تخدش دينامية القول الروائي أو تشظيه بوساطة لغة ثرية: «امرأة تشعل النار بالماء لا هي حورية ولا جنية وليس فيها شيء من طبع النساء… أنام لأصحو من ضباب الحلم باحثاً عن المرأة في حكاية شهريار» (ص24/ غواية شهرزاد).

ولعل المرأة الحلم وتصاديات الطفولة والأم والمرأة الفكرة، هي ما تنهض بشواغل النصوص القصصية لغواية شهرزاد إذ إن الغواية ستبدو أكثر من وظيفة انتباهية تحررها أفعال التلقي لطبقات ومكونات النصوص القصصية، ليس وقوفاً فقط عند تلك التقنيات المحسوبة، بل ذهاباً إلى التنويع على الحكاية وأسطرتها، المرأة المحملة بحكايات وأساطير في مناخات من التوتر ومصاحبات المفارقة التي تكسر أفق التوقع «سميناها مئات الأسماء ثلاثة أشهر والأسماء تطير بينهما وحولهما، وفي غفلة منهما ومن شمس الصباح وقبل أن تناغي اسمها دكت الطائرات رأسها وعلى الأرض وفي السماء انتشرت حروف اسمها» (من نص ماذا نسميها/ ص141).

ولعل قصة أحلام فارس المهداة إلى روح الطفل الشهيد فارس عودة، ستنهض على متخيل الحكاية والتماهي الخلاق ما بين الواقع والخيال، ليعدد القاص مستويات هذه الحكاية ذهاباً إلى ما بعد الحكاية ليوحي بما لا تقوله اللغة، توليداً لتعبير مجازي يأخذ دلالاته الاحتمالية في مكونات نص مترابط محمول على إحالات داخلية تضيء مدلولات الحكاية الأصل/ المرجع، لتبقى مفتوحة على شتى التأويلات.

يبرع القاص أنور رجا في استدعاء المفارقة على مستوى اللحظة الحلمية، مفارقة زمكانية سنجد تعبيراتها في ما تشي به جملة من النصوص أدلها «موسيقى الأحذية، موهبة، سحابتان» على سبيل المثال لا الحصر، عبر الاستيهام وعبر ما يطيفه من خطاب الغواية، أي البحث عن «لعنة السر، رهبة الكلام، وعن مدن العطش الغارقة في الماء، عن جنيات الليالي المرصودة للغواية والجفاف».

غواية شهرزاد قوس قزح الحكايات والبطولة الجمعية والفردية، في نسيج كتابة مرآوية لا تحتفي بالواقع، بقدر ما تعيد إنتاجه بمتخيل من طفولة طليقة سنجد دالتها في نصه «حبة بوظة» حينما تساءل الطفل ذلك السؤال الفادح «لماذا يضعون أكياس الأموات في سيارة البوظة؟ كان جواب أمه: انتظر يا حبيبي حتى تفرغ شاحنات البوظة من حبات العين».

حكايات مترعة بالدهشة والانخطاف إلى زمن سرد صاف كما النصوص ذاتها، بتعاضد الحكاية والمفارقة والنهايات التي تستدعي تأويل القارئ، الذي ما ينفك متسائلاً عن أطياف السيرة الذاتية وقوس قزحها في المتون الحكائية وعلى مستويين مضمرين هما سيرة النص وسيرة الكاتب، والأدل سيرة الراوي الذي يؤلف بين هذه الحكايات، وما يشي أكثر باستدعاء اللغة كبطل إضافي في تأسيس محكياته/ مشهدياته، ما يعني أن النزوع إلى السرد هو غواية شهرزاد بامتياز، لكنها شهرزاد الحكاية بكل مرجعياتها ومواقع رؤيتها الناهضة في بنية قصصية أكثر قدرة على محايثة أفعال التغيير وترجمان الأحلام، وبذلك نقف على كون قصصي باذخ التنوع والحساسية لجهة القصة القصيرة الفلسطينية المعاصرة في حداثتها والتقاطها للحظة الحداثة، أي الأكثر انفتاحاً في رؤيتها وفي صوغها قولا قصصياً متماسكاً.

أحمد علي هلال