ثقافةصحيفة البعث

وشاح الحكاية الشعبية ونسيج الجدّات

عندما جلس الأزل هاهنا لبرهة وهو يستفيء بظل شجرة الحكاية السورية الأولى، أَجلَسَ حوله كل قلوب الجدات اللواتي يعشن معنا في منازلنا الدافئة ولقنهن الدروس الأولى في حياكة الأوشحة الصوفية وطقوس الحكايات، وعلمهن كيف يجذبننا إلى رحيق الشفاه بتلك الطريقة السحرية الآسرة.

ومن وقتها وحتى لحظة كتابة هذه الكلمات كانت الجدات والأجداد بالنسبة لنا تنور الشوق الموقد دائماً، لنسمع منهم أفضل ما يمكن سماعه يوماً (كان يا ما كان في قديم الزمان).

كانت الحكاية التي يتم نسجها من الحب ومن الخوف ومن الرغبة في تلقين الحكمة ومن بث روح البطولة والشجاعة والتضحيات، جذوة فاعلة في خيط التربية السورية الذي يحكم بعراه المتينة نسيج الذائقة الجمعية لأطفالنا.

ما الذي تبدل في حالنا وأحوالنا حتى تراجعت هذه الحلقات الروحية من التلقين؟ ولماذا تأخرت الحكاية الشعبية وبات أوارها يخفت يوماً بعد يوم؟

ولمن نترك أطفالنا في هذه الأيام ليلقنوهم الحكاية التي لا نريد عن أبطال لا نقتدي بهم وعن أحلام شعب آخر لا ينتمون إليه؟

كل العناوين الخاصة بجمع التراث الشعبي تنصب غالباً في الجانب المحسوس والملموس من أزياء وأطر عمارة وتفاصيل خاصة بالأطعمة والرقصات.. إلى ما هنالك من عناوين، وتبقى الحكاية في الدائرة الضيقة المهملة نوعاً ما.

لماذا لا يكون لنا تجمع فكري وثقافي ما يعمل على جمع هذه الدرر من صدور الجدات ليودعها في أماكن خاصة للعرض الدائم المتاح لكل أطفالنا؟ وتقدم لهم على شكل كتب ومجلات وأعمال متلفزة وتطبيقات حاسوبية وأعمال تفاعلية على الجوّالات الذكية.

نملك –وأنا متأكد من هذه العبارة- كل الخبرات والمواهب والإمكانات لتقديم وجبة متكاملة من الطرح الثقافي الناضج الذي يستند في جوهره إلى الحكايات الشعبية الملهمة والأصيلة العريقة من كل محافظة وقرية وبيت في سورية الأصيلة.

يبدأ الأمر من تسجيل كل حكاية وورقة مطوية وهمسة وأمنية تبوح بها الجدات وينتهي بتنقيح وضبط هذه الكنوز وتحويلها إلى أعمال ثقافية ناضجة واعية وبلغة معاصرة مناسبة لمفردات وتقانات الحاضر.

سنجد في انتظارنا على الضفة المقابلة لنسيج الوشاح الأسطوري: (حديدان – والغولة – وسنيسل ورباح – عنز العنوزية – والضبعة أم عامر – وحبيبة الرمان – والست بدور – والأميرة ذات الجديلة…..) وكل ما يمكن أن تعددوه من عناوين شائقة تجلب للنفس ابتسامة مخفية طواها الزمن لأعوام طويلة في عمق التاريخ.

أذكر أن العملاقين (دلال حاتم/ نصاً– وممتاز البحرة / رسوماً) قاما بعمل سلسلة مصورة مستقاة من الحكاية الشعبية (الأرنب حديدان والذئبة الشريرة)، وكانت تلكم الحكاية مهوى فؤاد الجيل الذي نشأ مع أسامة وحكاياتها في تلك الحقبة وكنا نتابع بشغف الحلقات وننتظر بفارغ الصبر العدد اللاحق لنتابع سير المغامرة.

آن أوان استيقاظ الأصالة السورية لتتصدر واجهات المكتبات ولنحمل الحكاية المستقاة من حكايتنا الشعبية كل ما نملك من تربية وخلق وأمثلة ناجعة عن طهر هذه الأرض.

المهمة ملقاة على عاتقنا جميعاً أفراداً ودور نشر وتجمعات ثقافية ومؤسسات حكومية تُعنى بهذا الجانب الثقافي الخاص بأطفالنا.

ربما تكون ورقة ما مطوية على رف خشبي معتق برائحة بخور الأصالة في بيت طيني من ريفنا الجميل، أو حتى جرعة هواء مستنشقة من هبة نسيم تتنهد بعدها شفاه جدة عجوز هناك تتكئ إلى جذع زيتونة، كافية لأن يخصب رحم الحكاية، وينسكب منها ألف عمل وعمل يقدم لأطفالنا في هذا الوقت من حلقات حضارة السوريين، لتظل الجدات تحوك لنا أوشحة الصوف المزركشة، وتكتب على جباهنا ألف حكاية منمقة وحكاية.

رامز حاج حسين